جدل الروح والمادة في الأمن المجتمعي
جدل الروح والمادة في الأمن المجتمعي
من دون الإيمان والأمن الروحي يلتهم الفراغ النفوس وتعيش في خوف وتخبُّط واغتراب، فالإيمان هو ما يحقِّق الانتماء الحقيقي للإنسان في هذا الوجود، فيأنس بمعية الله ويطمئن به، وما يثبت الإنسان في خضم الكوارث والأمراض والحروب والطغيان إلا ثشبُّثه بحبل متين وخالق قادر مطلق القوة يحتمي به فيأمن ويطمئن بمعيته فلا يفزعه إقبال الدنيا أو إدبارها، فتراه بعيدًا عن القنوط واليأس، وهذا ما لا نراه في الدول الأعلى معيشةً ورخاءً التي تعاني علو نسبة الانتحار لفقدانهم الأمن والأمل فيما بعد هذه الحياة المادية.
ومع ذلك فإن هناك علاقة جدلية بين الأمن الروحي والمادي، فقد يكون الأمن المادي شرطًا لاكتمال الأمن الروحي، وصلاح الدين مؤسس على صلاح المعاش؛ فإن نظام الدين لا يحصل إلا بانتظام الدنيا، فنظام الدين بالمعرفة والعبادة، ولا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات من كسوة ومسكن وأقوات وأمن.
يقول رسول الله ﷺ: “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا” أي من جمع الله له بين عافية بدنه، وأمن قلبه حيث توجه، وكفاف عيشه بقوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع الله له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها، ويقول أبو حامد الغزالي: “فمن كان جميع وقته مستغرقًا بحراسة نفسه من سيوف الظلمة، وطلب قوته من وجوه الغلبة فمتى يتفرغ للعلم والعمل وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة؟” إذن فإن نظام الدنيا فيما يخص مقادير الحاجة شرط لنظام الدين.
الفكرة من كتاب مقوِّمات الأمن الاجتماعي في الإسلام
بين توُّحش الحضارة المادية بنظمها الرأسمالية أو الشمولية الشيوعية، التي أعطت الإنسان مطلق الحرية وجعلته سيدًا للكون يتصرَّف فيه كيفما شاء ويتملَّك دونما قيود، وبين زهد الدروشة والانصراف التام عن الدنيا، كان الإسلام منهجًا وسطًا لتحقيق الأمن الاجتماعي ليأمن الناس على معاشهم عن طريق تحقيق العدل المجتمعي، وفلسفة الإسلام في ذلك تأتي من نظرية “الاستخلاف”.
فالناس مستخلفون في ملك الله (عز وجل)، وكلاء عنه للتصرُّف في الموارد التي أوجدها لهم، وهذا لا ينزع حق التملُّك تمامًا وإنما يضع الضوابط عليه بما يحفظ اتزان المجتمع، يقول الإمام محمد عبده: “إن تكافل الأمة يعني أن مال كل واحد منكم هو مال أمتكم”، فنصيب الفقراء في أموال الأغنياء “حق”.
في هذا الكتاب يناقش الدكتور محمد عمارة مفهوم الأمن الاجتماعي وأهم مقوماته في الإسلام، وكيف نحقق العدل والتكافل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي.
مؤلف كتاب مقوِّمات الأمن الاجتماعي في الإسلام
محمد عمارة (1931 – 2020): مفكر إسلامي مصري، ومؤلف ومحقِّق، كان عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وعضو هيئة كبار علماء الأزهر، وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، حصل على الليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية من كلية دار العلوم، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، وعرف بمنهجه الوسطي الجامع.
ترك ميراثًا كبيرًا من الكتب يزيد على 140 كتابًا، منها تحقيق الأعمال الكاملة لعدد من أبرز الكتَّاب مثل الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده، كما ألَّف عن أعلام التجديد الإسلامي وعن التيارات الفكرية الإسلامية قديمًا وحديثًا، ومن مؤلفاته: “أزمة العقل العربي”، و”خطر العولمة على الهوية الثقافية”، و”الحضارات العالمية: تدافع أم صراع”، و”هل المسلمون أمة واحدة؟”.