وبعد دوران الأزمان!
وبعد دوران الأزمان!
إذا نظرنا إلى ما نحنُ فيه الآن، نجد أننا ننظر بمنظورٍ آخر إلى أثر أوروبا الحديثة في النهضة العربية، وذلك بعدما دارت الأفلاك دوراتها وأصبح الشرق ينهل من الغرب المتقدم أي شيء لمجرد أنه غربي، لكن الولع لكل جديد هو مجرد دليل على نقص في التمييز، وقد ظهرت آثار تقليد الغرب لا سيما على الوجه الاجتماعي.
ورغم ما استفاد به الشرق من تقدم الغرب، فقد تضرَّر كثيرًا بسبب الاقتباس الشامل من عادات الغرب، فساء فهم الحرية وبخاصةٍ الحرية النسائية التي فهمت أن الحرية تكمن في التحرُّر من القيود كلها حتى قيود دينها والوفاء للأزواج والأبناء، كما أن الشرق الإسلامي قد قبل إنشاء المصارف المالية والتعامل بالفائدة (الرِّبا)، كما تم إنشاء المحاكم الحديثة التي سُمِّيت بالمحاكم الأهلية.
وقد اختلف مفهوم الوطنية في العصر الحديث عن سابقه الذي كان يُعد غريزة معروفة في الإنسان ترتبط بحنينه إليه، ولقد سبقت الحضارة العربية العالم في ذلك لأنها كانت تدين بأن الأرض لله وأن الملك خادم الشعب يحكمه باختياره، ولما تبدَّلت الأحوال أصبح الغرب هو الذي يقوم بتعريف الوطنية ويربطها بحقوق الإنسان في الوقت الذي يمارس فيه طغيانه واستعماره على الأوطان، فنادى الشرق المغلوب آنذاك بالتحرُّر من ذلك الاستعمار فقط، لأنه رفض أن يشاركه في الرزق دخيل لا علاقة له به وأن يرد العدوان بالعدوان لا لتطبيق مفهوم الوطنية بحد ذاته.
الفكرة من كتاب أثر العرب في الحضارة الأوروبية
نظن نحنُ أمة الشرق الآن أننا أصبحنا في القاع، وإن تأكَّدت ظنوننا فإننا رغم ذلك لا ننظر إلى الحلول بقدرِ ما نتجادل في مشكلاتنا، والأعجب من ذلك أن الكثير منّا وصل به الحال إلى اتهام ما كان سببًا يومًا ما في انتشالنا من القاع بأنه هو سبب ما نحنُ فيه الآن.
إن الأمة التي تعلمُ ماضيها ستعرف كيف تُصلح حاضرها مهما ساء وضعه، ووجب علينا أن نعرف من نحنُ حقًّا وكيف أضاف أجدادُنا بصمةً في العلوم والفنون كانت هي حجر الأساس لكل ما وصل إليه العالم الآن.
مؤلف كتاب أثر العرب في الحضارة الأوروبية
عباس محمود العقاد (1989-1964م): أديبٌ ومُفكر وشاعر مصري، وعضو سابق في مجلس النواب ومجمع اللغة العربية، ألَّف أكثر من مائة كتاب في شتى المجالات، أشهرها سلسلة العبقريات، والفلسفة القرآنية، وحياة قلم، ويُعد من أهم كتَّاب القرن العشرين في مصر.