نماذج من البطولات
نماذج من البطولات
في الثاني عشر من مايو عام ألفٍ وتسعمائة وتسعة وستين اجتاحت الجبهة موجة باردة، وكانت الريح تزمجر حتى إن الجنود وجدوا صعوبة في الرؤية والتقاط الأصوات رغم أنهم كانوا وقت الظهيرة، وفجأة دخل عليهم جنديان بملامح ريفية من الصاعقة ومعهما كلبان وطلبا ضابط الموقع وأخبراه أنهما سيعبران إلى سيناء بعد ساعةٍ واحدة عند المنطقة المواجهة على خط القناة، وسردا للجنود كيف يتسلَّلان في جنح الظلام مع الكلبين لتدمير منشآت العدو ومعدَّاته، وكيف يعبران القناة ويتخلَّصان من كمائن العدو.
لم تمنعهم هذه الأجواء من القيام بواجبهما، فبعد ساعة نهضا واقترب كل كلبٍ من صاحبه وحمل كل جندي منهما مدفعه الرشاش على كتف وحمل حقيبة أخرى مليئة بالمتفجرات على الكتف الأخرى، ثم امتدت أيديهما للتحية غير أن الجنود لم يتمالكوا أنفسهم فاحتضنوهما وقالوا لهما في صوتٍ واحد: الله معكما وقلوبنا أيضًا، وانطلق الجنديان ليعبرا القناة وبعد ساعاتٍ قليلة ربما تندلع النيران في مواقع العدو وربما يستشهدان مع كلبيهما، وما كان من أحد الجنود إلا أن تساءل كيف سيعرف الناس قصص هؤلاء؟
إن هذين الجنديين لم يكونا المثال الوحيد للبطولة والتضحية، فالقصص أكثر من أن تحصى، ومنها قصة الجندي الذي ضرب العدو سرية مدفعيته فهرب الجنود من شدة النيران وثبت هو فأطلق مدفعه المحشو بالطلقات نحو العدو غير أنهم انتبهوا إلى هذا وركزوا النيران عليه فسقطت قذيفة بجواره وطارت شظية قريبًا منه فشقَّت رأسه، ومات محتضنًا مدفعه والدماء تسيل من رأسه، أو جندي المدفعية الآخر الذي كان في نفس موقفه، وتسبَّبت قذائف العدو بإصابته هو ومن حوله من الجنود وقطع ذراعيه إلا أنه صمد واستمر في القتال رغم أوامر قائده وسيل القنابل فحرَّك المدفع بقدميه وأسقط طائرة للعدو قبل أن تفارق روحه جسده.
الفكرة من كتاب مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس
على ضفة قناة السويس دارت رحى الحرب بين مصر وإسرائيل فيما يعرف بحرب الاستنزاف، أو حرب الألف يوم، وحدث العديد من المناوشات بين الفينة والأخرى، بالإضافة إلى بعض المعارك الصغيرة أو التسلل إلى الضفة المقابلة وإيقاع خسائر في الجيش المقابل، وقد كانت المدافع المصرية منصوبة في وجه المدافع الإسرائيلية في قطاع شرق الإسماعيلية حيث كانت كتيبة المؤلف؛ فيروي لنا أحداث ما رآه من هذه الحرب، وأحداث رفاقه وأحلامهم وطموحاتهم وحماسهم وبسالتهم وأيضًا خوفهم، وقد كتبها بدافع من يريد إظهار بطولات الجنود البسطاء المنسيين على الحدود حتى تشعر أنك ترى الحرب وأحداثها ماثلة أمامك لا كاتب ينقلها لك ويتأثر بانفعالاته وانحيازاته؛ إنها بحق عمل جليل.
مؤلف كتاب مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس
أحمد حجي: كاتب، ولد عام 1941 بقرية ميت جراح بمحافظة الدقهلية، وتخرَّج في كلية الطب البيطري عام 1967، وبدأ نشاطه الاجتماعي في أواخر الخمسينيات، ففتح مدرسة لمحو أمية الفلاحين والعمال والنساء في قريته بالدلتا، وجُنِّد بالقوات المسلحة عام 1968 في مكان آمن بالقاهرة، لكنه طلب بنفسه الذهاب إلى الجبهة حيث تولى الشؤون الطبية في الكتيبة التي خدم بها على جبهة القناة حتى استشهاده عام 1972.
له مقالات في الثقافة والفن ومحو الأمية، نُشر أغلبها في مجلة “الطليعة”، وصدرت له عدة كتب، منها: “الكلمات والبارود”، و”الفلاحون والعمل السياسي”، و”محو الأمية عمل لا بد منه”، ومنعت الرقابة صدور كتابه “مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس” عام 1972، ثم ها هو بين أيدينا الآن.