نظام اللغة ووضعها
نظام اللغة ووضعها
اللغة، مثلها مثل أي عمل جمهوري، يستغرق تكوينها الوقت الطويل لتنضج وتكتمل، فإن الجمهور يتلقى الشيء عن الأفراد ساذجًا ناقصًا، فيتمُّه ويتناوله بالتهذيب والصقل، لأن الجمهور يستوعب جميع وجهات النظر التي لا يتبناها الأفراد، ويتهيَّأ له من الأسباب والوسائل ما لا يتهيَّأ للأفراد، كما أنه يتلقى ملاحظات الأفراد فيعمل فيها بالتمحيص والنقد حتى يصل باللغة إلى درجة من الكمال لا شية فيها ولا نقص، لذا فاللغات دقيقة الصنع جديرة بإنعام النظر في نظامها البديع.
إنَّ الوقوف على وضع كل كلمة أو تاريخ استعمالها من الصعوبة بمكان، ونحن مجبرون على استعمال القياس والتحليل محل هذا التاريخ المجهول، ولكن من حسن الحظ أن للكلمات ميزة التوالد السريع والانتقال بين الاستخدامات المتنوعة، فتسمية الأشياء تبدأ بوضع اسم جزئي غير محدد من أحد الأشخاص ثم يتناوله الجمهور ويتعارف عليه، فإن كان له آحاد انتقلت التسمية إلى المسمى ومن المجموع صارت الكلمة نكرة، وإن لم ينتقل الاسم إلى غيره صار علمًا، فيتضح جليًّا أن هذا الوضع لا يتم إلا بعمل الجمهور.
ومن أمثلة ذلك: جملة “سُرَّ مَن رأى” قيلت حين نظر الناس إلى المدينة المشهورة فأعجبتهم ثم تداولوها حتى نحتوا منها الاسم الذي صار علمًا على المدينة وهو (سامرَّاء)، والأسماء المعنوية كالمحسوسات في هذا إلا أنها تأخرت عنها كونها نتاج المدنية والعقل والتفكير، فكلمات مثل أم وأب وناقة وجمل أسبق في الظهور من الحيوية والجاذبية، وهذا دليل آخر على أن اللغة من عمل الجمهور وليس من عمل الأفراد، كما أنها تراكم ثقافي ونتاج خبرات متتابعة.
الفكرة من كتاب كينونة اللغة العربية
ليست اللغة وسيلة للتفاهم وأداة لنقل المعاني فحسْب، بل هي تعبير عن مدنية الإنسان التي مكَّنته من اختراع هذه الأداة العظيمة لينقل بها مشاعره وأحاسيسه وأفكاره، ويؤلفَ شعوبًا ومدنًا وحضارة، وفي هذا العرض الموجز نستكشف عواملَ نشأة اللغات وكيف تنمو وتنتظم وتتطوَّر، ومن واضعها، وما وضعها وبنيتها، وندرس جانًبا من خصائص اللغة العربية وبعض المشكلات التي تواجه دارسيها.
مؤلف كتاب كينونة اللغة العربية
الدكتور عبد الفتاح بدوي: كاتب وعالم، يعدُّ كبار علماء الأزهر الشريف، وُلد بقرية طحلة مركز بنها بمحافظة القليوبية عام ١٨٩٨، درس في المعهد الأزهري بالإسكندرية، وحصل على شهادة الدكتوراه الملكية عام ١٩٢٩، وعمل مدرسًا بكلية اللغة العربية منذ عام ١٩٣٣ حتى وافته المنية (رحمه الله) عام ١٩٤٨.
ومن مؤلفاته: “كتاب في العروض والقوافي”، وله جهود وآراء متميزة في قضية الأضداد في اللغة، وكتب في التاريخ، وذكر الزركلي ترجمته في الأعلام.