موجز سريع
موجز سريع
“إن الإنسان لما كان مركبًا من بدن ونفس صار يوجد له من قِبل كلٍّ منهما صلاح وفساد، وصحة ومرض، وسُقم وأعراض تعرض له في صحتها فتفسدها عليه ويُنسب إليه خصوصًا”؛ بهذه المقدمة الوجيزة والدالة على محتوى الكتاب بدأ البلخي كتابه، مشيرًا إلى وجود علل تعترض الأنفس كما تعترض الأبدان، بل ربما كانت علل الأنفس أكثر، فالواحد منا تمر عليه الأيام، بل وربما الأسابيع بغير علة عضوية جسدية، أما النفس فمتقلِّبة بين فرح وحزن وهم وانبساط وضيق وخوف وما إلى ذلك.
بل إن هذا حال الدنيا والإنسان فيها مخلوق في كبد، فالجاهل من حاول قطع ومنع هذه العلل وذهب يطلب ذلك ويبذل فيه الغالي والنفيس، ومع هذا فإن لكل إنسان نصيبه منها ولا يتساوى الناس في مقدار ما يتعرَّضون له ولا في كيفية تعاملهم مع ما يتعرَّضون له أيضًا، بل وتختلف ردَّات فعل النساء عن الأطفال عن الرجال، هل رأيت مثلًا رجلًا في جنازة يشقُّ ثوبه ويلطم وجهه تأثرًا بما نزل به من مصيبة الموت من فقد عزيز أو قريب! هذا نادر بالطبع، ولكنه بالمقابل في النساء كثير.
نعم لا فرار من النوازل النفسية أو الأمراض الجسدية، لكن ذلك لا يلغي سبل الوقاية ومعرفة أسباب الصحة الجسدية والنفسية والأخذ بها، فما يصيب الإنسان مجملًا إما أن يكون من مصدر خارجي عنه أو أن يكون من داخله، فالجسد قد يُصاب من شيء خارج عنه من غذاء فاسد مثلًا، أو من ضربة شمس أو حادث لا قدر الله، وقد يمرض عضو ما بداخله بغير سبب ظاهر، كذلك النفس قد تتعرَّض لمدخلات سماعية أو بصرية تحزنها أو تبهجها، وقد يتسلَّط عليها فكرها فيمنعها الراحة والنوم!
ومن هنا كان على الإنسان أن يحتاط ويعدُّ عدته لنفسه كما يحتاط ويعدُّ عدته لجسده، فالجسد يتقوَّى بالغذاء النافع والرياضة المستمرة الصحيحة والهواء النقي والأدوية الكيميائية عند الحاجة، وكذلك النفس تحتاج أن تتقوَّى بالأفكار النافعة والمواعظ والنصائح المرشدة، وأن يكون الإنسان عالمًا بنفسه ومنتبهًا لها، فمتى أصابها عارض فهو يعلم أين الدواء وعند من يبحث عنه، وهنا تأتي أهمية الواعظ الصادق أو الصحبة الصالحة، فالنفس في مثل تلك الأوقات تحتاج أن تسمع كلامًا من خارجها يذكِّرها ويؤنسها، وبها جمع الكتاب بين كيفية تدبير مصالح البدن والنفس إلا إنه ركَّز على الأخيرة أكثر كما سنرى.
الفكرة من كتاب مصالح الأبدان والأنفس
إن جهلنا بتاريخنا الإسلامي وغلبة المادة والنظرية الغربية المفسِّرة لكل شيء من حولنا تقريبًا أورثنا ضعفًا وانقيادًا للغرب بمخرجاته صحيحة كانت أم فاسدة، وأسلمنا أنفسنا وأجسادنا (بالمعنى الحرفي) له ليجرِّب ويكتشف، ثم يتبيَّن خطأه ونقصه بعد مرور الأعوام وفوات الأوان!
هذا الكتاب يعد دليلًا قويًّا على سبق العالم الإسلامي في الطب النفسي منذ مئات السنين، وبخاصةٍ في العلاج المعرفي السلوكي الذي ينبهر الغرب اليوم بنتائجه، ولكنها عقدة النقص!
مؤلف كتاب مصالح الأبدان والأنفس
أبو زيد البلخي: وُلد في مدينة بلخ، والتي تُعد من أكبر مدن خراسان، وهي اليوم مدينة من مدن أفغانستان عام 235 للهجرة، وفي شبابه سافر إلى العراق طلبًا للعلم فتبحَّر في الفلسفة والفيزياء والتنجيم وأصول الدين والطب، وتتلمذ على يد علماء كبار من بينهم يعقوب بن إسحاق الكندي الفيلسوف العربي المعروف.
لم يكن عصر البلخي عصرًا هادئًا، بل كان مضطربًا من الناحية السياسية ومن الناحية الدينية أيضًا، فأما من الناحية السياسية فاتسم العصر بضعف الدولة العباسية وتكالُب الفتن عليها من كل حدب وصوب، وباشتعال الفتن في البلاد التابعة لها ومن بينها خراسان، واتسمت تلك الفترة أيضًا بظهور الفرق والحركات الباطنية كحركة الزنج والقرامطة مثلًا؛ خروجًا على الدولة العباسية وتأسيسًا لمُلك مستقل عنها، بل وظهرت الفرق والمذاهب الكلامية أيضًا، ويبدو أن البلخي نفسه قد تأثَّر بشيء منها ثم عاد إلى جادة الصواب، ويُقال بل كان على العقيدة الصحيحة، ولم تتكدَّر عقيدته بشيء من ذلك.
بعدما أنهى رحلته في العراق عاد إلى مدينته وعرض عليه حاكمها أحمد بن سهل المروزي الوزارة فرفض البلخي هذا العرض وقبِل أن يكون كاتبًا للحاكم.
ألَّف البلخي ما يقارب الستين كتابًا، ومن ذلك:
فضيلة علم الأخبار.
فضل مكة على سائر البقاع.
الشطرنج.