من مذكرات بورما
من مذكرات بورما
من التجارب المثيرة للاهتمام التي يرويها لنا جورج أورويل في مقالاته، هي تجربته حينما كان يعمل ضابط شرطة في القسم الفرعي لبلدة موماين ببورما السفلى، حيث هرب فيل مروَّض من قيوده في إحدى الليالي وظهر يجتاح السوق في اليوم التالي، عندها امتطى جورج حصانًا وتوجَّه إلى المكان ومعه بندقية صغيرة من طراز وينشستر 44 بغرض الترهيب.
في هذه الأثناء كان الفيل قد دمَّر كوخًا، وقتل بقرة، واقتحم أكشاك الفواكه وبالطبع قد التهم مخزونها، لكن أسوأ ما حدث كان مهاجمته وقتله لعامل هندي قرب أحد الأكواخ، لهذا السبب أرجع جورج الحصان تحسُّبًا لجنونه إذا رأى الفيل، كما أرسل عامل ارتباط لاستعارة بندقية صيد فيلة من أحد أصدقائه، وعندما وصل عامل الارتباط بالبندقية، كان الفيل قد توجَّه إلى أحد حقول الأرز، يقف مواجهًا الحشد الذي تبع أورويل بجانبه الأيسر لكنه لم يعطهم أي أهتمام، بل بقي يمزِّق حزمًا من العشب ويأكلها.
كان أمام أورويل في هذه المرحلة خياران: إما أن يراقب الفيل عن بعد في انتظار وصول سائق الفيلة وهو ما كان يفضِّله، أو أن يقتله وهو ما شعر بأنه يتوجَّب عليه فعله وهو محاط بحشد كبير يراقبه كساحر على وشك القيام بخدعة، كانت هذه اللحظة هي اللحظة التي أدرك فيها جورج أورويل ما وصفه بـ”عدم جدوى وخواء سيادة الرجل الأبيض في الشرق”، فهو عندما يتحوَّل إلى طاغية فهو يخسر حريته هو ويمضي عمره محاولًا إبهار سكان البلدة الذين يكرهونه.
في النهاية استسلم جورج وأطلق النار على الفيل الذي استغرق نصف ساعة ليفارق الحياة رغم عدد الطلقات التي أطلقت عليه، وكان هناك ردود فعل مختلفة حيال هذا الحدث، فالبورميون قد توجَّهوا بالسلال لجمع لحم الفيل، بينما غضب الملك الهندي، أما الأوروبيون فقد انقسموا، حيث رأى الكبار أنه قد اتخذ القرار الصحيح، بينما رأى الشباب أن الفيل قد كان أكثر قيمة من الحمَّال الذي قتله.
الفكرة من كتاب لماذا أكتب؟
عندما وصل جورج أورويل في عمر الثامنة إلى مدرسة كروس جيتس، بدأ الطفل في تبليل سريره ومن ثم تلقى العقوبات من ناظر المدرسة السيد سيمبسون الملقب بـ”سيم” وزوجته السيدة سيمبسون الملقبة بـ”بينجو”، وقد تعلَّم جورج من هذه التجربة في صباه ما وصفه بالدرس الدائم، والعظيم أنه كان في عالم حيث لا يمكن أن يكون صالحًا، أما الأثر الثاني لهذه التجربة فقد كان تعلُّمه القبول بالذنب لجرائم لا تخصُّه، وهو شعور بقي يسترجعه وظل موجودًا بذاكرته ربما لعشرين أو ثلاثين سنة.
ومن هذه التجربة كذلك يقول أورويل إن العبث في ذكرياتنا الخاصة يعلِّمنا أن رؤية الطفل للعالم هي رؤية مشوَّهة، آمنَّا فيها بالكثير من التفاهات التي دفعتنا إلى المعاناة لأن الآخرين يستغلون ضعف الصغار وسرعة تصديقهم فيصبُّون عليهم الشعور بالدونية والخوف.
هذه التجربة هي التجربة الأقدم من بين تجارب عديدة وخبرات وآراء كثيرة يرويها لنا جورج أورويل في مقالاته المجمَّعة معًا في هذا الكتاب.
مؤلف كتاب لماذا أكتب؟
جورج أورويل: هو الاسم المستعار الذي استخدمه الصحفي والروائي البريطاني إريك آرثر بلير واشتهر به خلال مسيرته الأدبية، ولد أورويل في ولاية بيهار الهندية لعائلة من الطبقة المتوسطة، حيث كان يعمل والده في الإدارة المدنية البريطانية هناك، لكنه انتقل بعد ذلك إلى إنجلترا.
درس جورج أورويل في مدرسة إيتون، لكنه لم يتخرَّج فيها حيث اتبع تقاليد عائلته، وانتقل إلى بورما للعمل كمساعد مشرف في الشرطة الإمبراطورية الهندية، وكان لهذه التجربة دور كبير في التأثير في فكره وأعماله الروائية فيما بعد، وقد تزوَّج أورويل من الكاتبة البريطانية إيلين بلير، أو الشهيرة بسونيا أورويل، وله ابن واحد هو ريتشارد بلير.
تُوفِّي الروائي الشهير عن عمر 46 عامًا في أحد مستشفيات لندن بعد صراع مع مرض السل، وقد ترك من خلفه عددًا من المؤلفات المؤثرة في الأدب العالمي، حيث ترجمت إلى العديد من اللغات وأشهرها روايات “1984”، و”مزرعة الحيوان”.
معلومات عن المترجم:
علي مدن: هو كاتب ومترجم بحريني مهتم بالدراسات الثقافية والسينما من مواليد عام 1986، وعمل علي مدن معدًّا للبرامج في تلفزيون البحرين، ونشرت له العديد من الأبحاث والمقالات والترجمات في الصحف البحرينية والخليجية، كما صدر له كتاب “زيارة إلى صالة فارغة”، وترجمة للأعمال القصصية مثل: “نزهة في فناء البيت الأبيض”، إضافةً إلى ترجمته لكتاب “لماذا أكتب؟” لجورج أورويل.