منازل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾
منازل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾
يبدأ ابن القيِّم (رحمه الله) في سرده لمنازل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ التي ينتقل فيها القلب منزلةً منزلةً في حال سيره إلى الله تعالى، ونبَّه أن ترتيب تلك المقامات ليس باعتبار أن السالك يقطع المقام ويُفارقه وينتقل إلى الثاني، بل هي أحوال تجتمع على القلب وتتغيَّر بتغيُّر أحواله، ولكن الترتيب الذي رتَّب به ابن القيِّم تلك المنازل إنما هو لتقريبه للسالكين.
وأولى المراتب هي مرتبة اليقظة: وهي انزعاج القلب لروعةِ الانتباه من رقدة الغافلين، فيفزع لمشاهدة منَّة الله عليه فيتيقَّن بتقصيره، وإدراكه لذلك التقصير يُظهر نوعين جليلين من العبودية: محبة المُنعم واللهج بذكره، وإزراء العبد على نفسه حيث عجز عن شكر نعمه، فإذا طالع جنايته شمَّر لاستدراك الفارط بالعلم والعمل، وتخلَّص من رقِّ الجناية بالاستغفار والندم وطلب التمحيص.
وإذا استحكمت اليقظة أوجبت الفكرة، وقد عرَّفها ابن القيِّم أنها تحديق القلب إلى جهة المطلوب؛ التماسًا له، والفكرة نوعان: فكرة تتعلَّق بالعلم والمعرفة، وفكرة تتعلَّق بالطلب والإرادة، فإذا صحَّت الفكرة أوجبت له البصيرة، فهي نور في القلب يُبصر به الوعد والوعيد، ويقوم به شاهد من شواهد الآخرة يُريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة انقضائها، والبصيرة ثلاث درجات: بصيرة في الأسماء والصفات، وبصيرة في الأمر والنهي، وبصيرة في الوعد والوعيد.
وهذه المنازل: اليقظة، الفكرة، البصيرة، والعزم هي لسائر المنازل كالأساس للبُنيان، وعليها يدور السفر إلى الله، فإذا عزم العبد وجمع مقصده انتقل إلى منزلة المحاسبة، وهي تمييز ما له وما عليه، فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه، ومن أركان المحاسبة أن تُقايس بين ما هو من الله وما هو منك، فحينئذٍ يظهر لك التفاوت وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته أو الهلاك والغضب، وتتوقَّف المحاسبة على سوء الظن بالنفس لأن حسن الظن بالنفس يمنع كمال التفتيش، والجهل بالنفس يولد من الأمراض كالعُجب والكِبر والآفات وما هو أكبر من الكبائر الظاهرة، فذنب تُذَلُّ به إلى الله أحب إليه من طاعة تُدِلُّ بها عليه.
الفكرة من كتاب الإكسير: خلاصة أعمال القلوب من مدارج السالكين
يقول ابن القيِّم (رحمه الله): “إن حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله، ومحبَّتهِ، والإنابة إليه، والتوكُّلِ عليه”، فكيف لهذا القلب أن يحيا تلك الحياة دون أن يعرف خالقها؟ دون أن يعرف العبد ما يحيا به قلبه؟ دون أن يعرف كيف يتصل هذا القلب بربِّه ويتعبَّد إلى مولاه؟ فإن السائر إلى الله تعالى مفتقرٌ في سيره إلى ما يُصلح قلبَه ويُزَكيه، وقد ألَّف ابن القيِّم (رحمه الله) كتابه مدارج السالكين في الحديث عن هذا السَّير.
وقد قام الباحثون بتهذيب الكتاب في كتاب “تقريب مدارج السالكين”، ثم هذَّبوه لمزيد من التقريب في “الإكسير”، والذي يُعد خلاصة خلاصة مدارج السالكين، لتيسير الاستفادة منه لشريحة أوسع من القراء، فحرِّر قيود روحك وانطلق آمنًا مُطمئنًا أيها السالك في طريق الله!
مؤلف كتاب الإكسير: خلاصة أعمال القلوب من مدارج السالكين
مجموعة من الباحثين وهم: الدكتور صالح بن عبد العزيز المحيميد، والأستاذ تركي بن عبد الله التركي، والدكتور حازم بن عبد الرحمن البسام، والدكتور فهد بن محمد الخويطر، والأستاذ محمد عبد الله الحميد.