مقدمة لا بد منها
مقدمة لا بد منها
خفيفة قريبة منك أحيانًا لا تشعر بها، وأحيانًا تكاد تسمع صوتها طربًا أو كمدًا، فإنها على الرغم من شدة قربها وقوة علاقتها بنا تعدَّدت الأقوال فيها بين الصواب الحق وبين الأهواء الممزوجة بالخيال والخرافة وبين الشطحات البعيدة جدًّا عن هذا وذلك، هل حزرت عمَّ نتحدث؟ نعم صديقي القارئ إنها نفسك التي بين جنبيك!
إنها اللغز الذي حيَّر العلماء وأشاب شعر الزمان منذ بدأ الإنسان عالمًا كان أم جاهلًا، يبحث فيه وينظر فيما وراءه متجاهلًا في أحايين كثيرة ضعف عقله البشري المحدود عن إدراك حقائق الأمور الغيبية، بل متجاهلًا أصلًا أن نفسه تلك غيب تخضع لما يخضع له عالم الغيب من خفاء واستعلاء على المشاهد المحسوس!
وحتى نكون منصفين فإن هناك من أدرك هذه الحقيقة واعترف بها من بعض العلماء، كأرسطو مثلًا الذي قال في كتابه “النفس”: “غير أن الحصول على معرفة وثيقة عن النفس أمر على الإطلاق ومن كل وجه شديد الصعوبة”.
البحث في النفس أمر قديم جدًّا قِدم الحضارات والعلوم الإنسانية، وإنما نشأ الشطط فيه من تجاهل الحقيقة الربانية السماوية وتجنيبها ميدان البحث، فنشأت الآراء يناقض بعضها بعضًا جيلًا بعد جيل، بل وتناقض نفسها أحيانًا لأنه لا أساس لها تستند إليه من جهة، ومن جهة أخرى لكونها نتاجًا بشريًّا قاصرًا عاجزًا عن فهم كثير من المحسوس المشاهد، فضلًا على أن يفسر ويدرك غيبًا كهذا، وللأسف فإن تلك الشهوة الإنسانية العارمة والرغبة في الكشف عن الغيب على الرغم من القصور في فهمه قد تسلَّلت إلى بعض الأوساط الإسلامية حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من تأثُّر الناس بخرافات التنمية البشرية وعلوم الطاقة واليوجا وقانون الجذب وما إلى ذلك، وأما الجواب فقد كان قابعًا هناك محفوظًا منذ ألف وأربعمائة عام في قوله تعالى: ﴿وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ ۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾، ولكنه الإنسان!
الفكرة من كتاب النفس عند الفلاسفة الإغريق
نعيش في هذه الحياة محاطين بأسئلتنا حول أنفسنا والآفاق والآخرين، علامات استفهام كثيرة نخاف أحيانًا أن نحاول مجرد الاقتراب من مصادر تجيبنا عنها، وكيف لنا أن نثق فيها مع تعدُّدها ومع ادِّعاء كل واحد منا أنها الحصرية بالحق وحدها!
تكمن الإجابة في “الحق”؛ فللحق وجه لا يشبه بقية الأوجه، وجه ثابت على مر الزمان وفي مختلف الأصقاع لا يتبدَّل ولا يتغيَّر ولا يضطرب، وجه آمن ترتمي في أحضانه بغير شكوك ولا ريبة، ستعرفه وحدك، وربما يساعدك على ذلك أن تلقي نظرة على تلك الأوجه المتعدِّدة حتى إذا وصلت إلى الحق أسلمت نفسك له بغير تفكير، تعالَ أُريك جزءًا يسيرًا من اضطراب الإنسان وحيرته وهو بعيد عن الحق، تعالَ أُريك بعض تلك الأوجه، ونصيحتي لا تطِل البحث ولا النقد، فوقتك في النهاية محدود، وأنت تعرف جيدًا فيمَ يجب عليك أن تنفقه!
مؤلف كتاب النفس عند الفلاسفة الإغريق
حياة سعيد باخضر: أستاذ مساعد بمعهد اللغة العربية لغير الناطقين بها في جامعة أم القرى بمكة المكرمة.