مفارقة القلق والحرية
مفارقة القلق والحرية
من منا لا يريد أن يتحرر من قيوده، وينطلق في بقاع الأرض مستمتعًا بحريته؟ هذا الشعور العذب اللذيذ، كيف يمكننا الوصول إليه؟ إن من المفارقات العجيبة أن شعورك بالحرية يبدأ بتقبل شعورك بالقلق والمسؤولية، فالحرية ليست سهلة المنال، ولا يمكنك تحقيقها إلا بعد أن تعرف أنك مقيد، وتعرف تلك القيود، وأول تلك القيود وأهمها إدراكك أن حريتك مرتبطة بحدود وجودك، هذا الوجود الذي لا يمكن الانفكاك من سننه وحقائقه، كحقيقة أنك وُلدت وستموت، وحقيقة أن لجسدك احتياجات مادية.. وغيرها، ولكي تحصل على حريتك عليك أن تتقبل حدود وجودك، وأنك لن تستطيع فعل كل شيء إلا في هذا النطاق الذي تفرضه الحياة عليك، فلا وجود لحرية مطلقة، وإنما هي دائمًا حرية محدودة، وبمعرفة تلك الحدود يمكنك التعامل معها بقبولها والسير داخلها أو التحرك بجانبها، وحينها تستطيع تغييرها، ومعرفة قيمك الخاصة وتطويرها، مما يصنع شخصيتك ويخلق المعنى داخلك، وعندئذٍ تستطيع استبصار الأهداف والغايات التي تحركك في الحياة، مما يساعدك على عيش حياة نابضة بالمعنى.
هذا المعنى، كما يقول الفيلسوف «كيركيجارد | Kierkegaard»: يجب أن يتجاوز رغباتنا الشخصية وطموحاتنا الذاتية، ويتصل اتصالًا وثيقًا بشيء أعظم من الذات، فمفتاح الحياة ذات المعنى عنده، أي كيركيجارد، هو الالتزام غير المشروط، المتمثل في التفاني والإخلاص لهدف أسمى، أو دعوة أخلاقية أو دينية، أو علاقة ذات أهمية عميقة، وعليه فالحياة القيمة التي تحتوي على معنًى لا توجد في مساعي اللذة والمتعة، وتراكم الإنجازات الخارجية، بل توجد في الإخلاص والتفاني لما يعتقده المرء من قيم وأهداف، مما يشعره بالتعالي عن وجوده المحدود.
وهكذا يمكننا أن نقول: إن القلق دافعٌ يجعلك على وعيٍ كافٍ بما أنت مُقدِم عليه، مما يدفعك إلى الاهتمام وتحمل المسؤولية، وحريتك تسمح لك بالإبداع والتغيير واتخاذ القرارات، وذلك لن يتحقق إلا بمعرفة حدودك، مما يؤهلك إلى الاختيار، فكثرة الخيارات والإمكانيات تُفقد المرء معرفة الاتجاه والشعور بالغرض والأصالة، مما يجعل معرفة الحدود في غاية الأهمية، وعليها يؤسس المرء قيمه، ويخلق معانيه، ومع زيادة تلك المعاني وتطورها على مر الزمان، يصبح للمرء تصور أفضل عن نفسه والعالم المحيط به، وبذلك ندرك دائمًا أن القدرات المتاحة أمامنا أكثر من القيود.
الفكرة من كتاب القلق والغضب من منظور وجودي
في أيامنا المتتالية ينتابنا مزيج من المشاعر، فتارة نشعر ببهجة عارمة، وتارة أخرى نشعر بالضيق والخوف، تارة نشعر بالرضا، وتارة نشعر بالغضب، لا تتوقف حال المرء عند شعور واحد، ولكننا نجد أنفسنا نَصِف بعض المشاعر بصورة حسنة مقبولة، وأخرى نخافها ونمتعضها، ونتمنى لو كان من الممكن أن تختفي، ونتساءل عن سبب وجودها، فلماذا ينتابني الضيق والقلق والغضب؟
تلك المشاعر التي قد لا نفهمها ولا نستطيع التعامل معها، وأحيانًا قد تتملكنا عند حدوث أبسط المواقف، وقد يشعر أحدنا بوجود طاقة رهيبة من الغضب تنطلق بداخله على الرغم من إدراكه أن الموقف الذي هو فيه موقف بسيط للغاية، فما أسباب هذا الغضب وأشكاله؟ وكيف يمكننا التعامل معه ومع بقية مشاعرنا؟ كيف لنا أن نفهمها، ونجعل منها دافعًا لنا للانطلاق في غمار الحياة؟ لنناقش تلك الأسئلة من منظور وجودي.
مؤلف كتاب القلق والغضب من منظور وجودي
إيمي فان ديورستن: فيلسوفة، ومعالجة نفسية وجودية، وأستاذة زائرة في العلاج النفسي بـ«جامعة ميدلسكس | Middlesex University»، حصلت على الماجستير في علم النفس الإكلينيكي من «جامعة بوردو | University of Bordeaux»، والدكتوراه في الفلسفة من «جامعة سيتي | City, University of London»، كانت أول رئيسة في المجلس البريطاني للعلاج النفسي، وكان تطبيقها لأفكارها الفلسفية على علم النفس والعلاج النفسي باعثًا على ترسيخ المدرسة الوجودية في بريطانيا، أسست مدرسة العلاج النفسي والإرشادي في «Regent’s College»، وجمعية التحليل الوجودي، والمدرسة الجديدة للعلاج النفسي والاستشارات.
لها إسهامات عديدة من تأليفٍ وتحريرٍ للعديد من الكتب، ومن أهمها:
Existential Counselling & Psychotherapy in Practice
Everyday Mysteries: A Handbook of Existential Psychotherapy
معلومات عن المترجم:
مازن المريح: مترجم مصري وباحث في علم النفس، وله اهتمام خاص بعلم النفس الوجودي.