مشاهد من مراكش
مشاهد من مراكش
في العام 1939، كتب جورج أورويل يحكي تجربته في مراكش التي سكنها حينها مئتا ألف ساكن لا يملك الكثير منهم شيئًا سوى الثياب التي عليهم، وأول ما يحكيه لنا أورويل من التجربة هو تأمُّلاته لأرض الدفن المقفرة والمقابر بلا شواهد أو علامات تعرفها من أي نوع، فعندما يودَّع المتوفَّى من قبل حشد صغير من الرجال والصبيان ملفوفًا بقطعة قماش ثم يوضع في الأرض ويغطى بقليل من التربة الجافة الوعرة، لا يعود بإمكان أقاربه التعرُّف على قبره في غضون شهر أو اثنين.
دعت هذه الملاحظة أورويل للتساؤل عن نظرة الإمبراطوريات الاستعمارية لهؤلاء البشر ووجوههم السمراء؛ هل هم من نفس اللحم الذي هم منه؟ هل لهم أسماء يميَّزون بها أم أنهم مجرد أشياء غير متمايزة تنهض من الأرض لتجوع بضع سنين ثم تعود في أكوام داخلها فلا يلحظ غيابها أحد؟ تتلاشى القبور بمرور الوقت، فلا يخبرك بوجودها سوى المطبَّات في الأرض حين تخرج للتنزُّه بين الأشجار الشائكة، تخبرك أنك تمشي فوق هياكل عظمية.
أما المشهد الثاني فهو مشهد صفوف الجنود السنغاليين المتجهة إلى الجنوب، فقد كانوا شديدي السواد، يلبسون البذل الكاكية والأحذية طويلة الرقبة، يختمون الطريق بوقع أحذيتهم وعجلاتهم الحديدية، يصف جورج النظرة في عين أحد الجنود حديثي السن حين التقت عيونه، بنظرة احترام عميق للرجل الأبيض، فقد تعلم أن العرق الأبيض هم أسياده وتحوَّل ذلك إلى إيمان ما زال بداخله.
أمام هذا المرأى يعترف أورويل أن السؤال الذي يدور في ذهن كل رجل أبيض هو: إلى متى يمكننا خداع هؤلاء قبل أن يديروا أسلحتهم في الاتجاه الآخر؟
الفكرة من كتاب لماذا أكتب؟
عندما وصل جورج أورويل في عمر الثامنة إلى مدرسة كروس جيتس، بدأ الطفل في تبليل سريره ومن ثم تلقى العقوبات من ناظر المدرسة السيد سيمبسون الملقب بـ”سيم” وزوجته السيدة سيمبسون الملقبة بـ”بينجو”، وقد تعلَّم جورج من هذه التجربة في صباه ما وصفه بالدرس الدائم، والعظيم أنه كان في عالم حيث لا يمكن أن يكون صالحًا، أما الأثر الثاني لهذه التجربة فقد كان تعلُّمه القبول بالذنب لجرائم لا تخصُّه، وهو شعور بقي يسترجعه وظل موجودًا بذاكرته ربما لعشرين أو ثلاثين سنة.
ومن هذه التجربة كذلك يقول أورويل إن العبث في ذكرياتنا الخاصة يعلِّمنا أن رؤية الطفل للعالم هي رؤية مشوَّهة، آمنَّا فيها بالكثير من التفاهات التي دفعتنا إلى المعاناة لأن الآخرين يستغلون ضعف الصغار وسرعة تصديقهم فيصبُّون عليهم الشعور بالدونية والخوف.
هذه التجربة هي التجربة الأقدم من بين تجارب عديدة وخبرات وآراء كثيرة يرويها لنا جورج أورويل في مقالاته المجمَّعة معًا في هذا الكتاب.
مؤلف كتاب لماذا أكتب؟
جورج أورويل: هو الاسم المستعار الذي استخدمه الصحفي والروائي البريطاني إريك آرثر بلير واشتهر به خلال مسيرته الأدبية، ولد أورويل في ولاية بيهار الهندية لعائلة من الطبقة المتوسطة، حيث كان يعمل والده في الإدارة المدنية البريطانية هناك، لكنه انتقل بعد ذلك إلى إنجلترا.
درس جورج أورويل في مدرسة إيتون، لكنه لم يتخرَّج فيها حيث اتبع تقاليد عائلته، وانتقل إلى بورما للعمل كمساعد مشرف في الشرطة الإمبراطورية الهندية، وكان لهذه التجربة دور كبير في التأثير في فكره وأعماله الروائية فيما بعد، وقد تزوَّج أورويل من الكاتبة البريطانية إيلين بلير، أو الشهيرة بسونيا أورويل، وله ابن واحد هو ريتشارد بلير.
تُوفِّي الروائي الشهير عن عمر 46 عامًا في أحد مستشفيات لندن بعد صراع مع مرض السل، وقد ترك من خلفه عددًا من المؤلفات المؤثرة في الأدب العالمي، حيث ترجمت إلى العديد من اللغات وأشهرها روايات “1984”، و”مزرعة الحيوان”.
معلومات عن المترجم:
علي مدن: هو كاتب ومترجم بحريني مهتم بالدراسات الثقافية والسينما من مواليد عام 1986، وعمل علي مدن معدًّا للبرامج في تلفزيون البحرين، ونشرت له العديد من الأبحاث والمقالات والترجمات في الصحف البحرينية والخليجية، كما صدر له كتاب “زيارة إلى صالة فارغة”، وترجمة للأعمال القصصية مثل: “نزهة في فناء البيت الأبيض”، إضافةً إلى ترجمته لكتاب “لماذا أكتب؟” لجورج أورويل.