مجتمع ما بعد الواجب
مجتمع ما بعد الواجب
بعد التمجيد المتعاظم للواجب الأخلاقي حلَّ زمن أفوله ونزع مصداقيته، فمنذ منتصف القرن العشرين ظهر ضابط اجتماعي جديد للقيم الأخلاقية، إذ تخلَّى عن “ينبغي أن” لصالح تعظيم السعادة، واللزوم القطعي لصالح الإثارة الحسية، والمنع القطعي لصالح الضبط الاختياري، وعُوّض خطاب الواجب بإغراءات الرغبة ونصائح الطب النفسي، فدخلت مجتمعاتنا مرحلة “ما بعد التخليقية” وهي تخفيف الواجب وإضعافه وعدم الحاجة إلى تكريس النفس لغاية عليا متجاوزة للذات، ومن ثمَّ فإنه في مجتمع “ما بعد الواجب” يكثر عرض الشر ويقل تضخيم المُثل العليا، فظهرت الأخلاق، ليست الأخلاق التقليدية الدينية التي تثير النقمة والسخط، بل الأخلاق المريحة غير المؤلمة والخالية من الإلزامات الصعبة وروح المسؤولية، ومن ثمَّ فإن الفضائل المعترف بها هي الفضائل السلبية (لا تفعل) أكثر من الفضائل الإيجابية (يجب أن تفعل)، فأصبحنا نعيش في زمن الأخلاق في حدها الأدنى.
لقد انتقلنا من حضارة الواجب إلى ثقافة السعادة الذاتية والأنشطة الترفيهية والجنس، ومن ثمَّ فإن ثقافة حب الذات هي التي تحكمنا الآن، فاستقلَّت المتعة عن القواعد الأخلاقية وصارت السعادة الذاتية هي التي تغذّي حياتنا اليومية، إن هذا التذويب للنظام التخليقي لا يعني الفسق غير المكبوح، فالفردانية الجديدة مُتعية ومنظمة، ومستقلة، ولا تميل إلى الإفراط، فهي حساسة تجاه الامتثال إلى الأوامر العُليا، لكنها معادية للفوضى والإباحية العامة، فهي “اللا نظام المنظَّم”.
لقد ساعدت حضارة الرفاهية الاستهلاكية على دمار “الواجب” وأفوله، إذ أذاب منطق الاستهلاك الجماهيري عالم المواعظ التخليقية، وقضى على الإلزامات، فسادت ثقافة تتغلب فيها السعادة على الأوامر الأخلاقية، والمتع على الممنوع، والإغراء على الإلزام، ومن ثمَّ لم يعد بإمكان الواجب أن يعبر عن نفسه إلا في صورة مخففة، فدفنت الأسواق الممتازة وفن التسويق وجنَّات الترفيه ديانة الواجب، وأصبحنا لا نستهلك فقط الأشياء، بل أصبحنا نستهلك الأفلام وعروض الأنباء والكوارث، إن ثقافة السعادة المخففة تفضي إلى قلق مزمن لدى الجماهير، إلا أنها تذيب في الوقت ذاته شعور الإثم الأخلاقي والندم، فصار الذي يميزنا هو الاكتئاب والقلق والفراغ والإجهاد، وليس هاوية تأنيب الضمير القاتلة، فوصلنا بذلك إلى عصر الأخلاق دون إلزام أو مسؤولية أو عقاب.
الفكرة من كتاب أفول الواجب.. الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة
يُبين المؤلف أن الأخلاق مرّت بثلاث مراحل، هي: مرحلة الأخلاق التقليدية الدينية، ومرحلة أخلاق الواجب التي فصلت بين الأخلاق والدين، ومرحلة أخلاق ما بعد التخليقية التي نعيشها الآن، وهي أخلاق ليس فيها إثم أو ألم وخالية من الإلزام ولا يترتب عليها أي عقاب، ويوضح أثر أفول الأخلاق الدينية وأخلاق الواجب في الأسرة والجسد والعمل والصحة والبيئة وعالم الأعمال.
مؤلف كتاب أفول الواجب.. الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة
جيل ليبوفتسكي : هو فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، له عدد من الدراسات والبحوث في نقد الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والرأسمالية النيوليبرالية، وتفكيك بِنى المجتمعات الاستهلاكية، من مؤلفاته:
مملكة الموضة.
المرأة الثالثة.
الترف الخالد.
الشاشة العالمية.
عصر الفراغ.
معلومات عن المترجم:
البشير عصام المراكشي: هو كاتب مقالات فكرية ودراسات شرعية، مدون وباحث ومفكر مغربي، حاصل على شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، له العديد من المحاضرات والدروس العلمية، من مؤلفاته:
العلمنة من الداخل.
شرح منظومة الإيمان.
تكوين الملكة اللغوية.