ما بين اللقاء والغربة
ما بين اللقاء والغربة
– لماذا أخشى أن أقول لك من أنا؟
= لأني إذا فعلت قد لا يروقك من أنا وذلك جلُّ ما أملك.
هذا الحوار الصغير على بساطته يلخص مشكلاتنا وتعقيداتها، لكن مع خوفنا من التعامل بصدق وبحقيقة ذواتنا والتردُّد في الانفتاح على الآخرين، يبقى داخل كلٍّ منا توق عميق إلى أن يُصغي إلينا الآخر ويفهمنا.
كما يقول “بول تورنييه”: “وكم في عمق الإنسان من حاجةٍ إلى أن يُصغَى إليه ويُفهم، إلى أن يُحمل على محمل الجد ويُقبَل”. فإنَّه لا يستطيع أن يحبنا أحد دون أن يفهمنا جيدًا، ولكن للأسف عندما لا يفهمنا من نحن بحاجة إلى حبهم، تصبح كل محاولة لإقامة تواصل ولقاء وخلق علاقة حقيقية تتسم بالتوتر والصعوبة، وحين يتعذَّر وجود من يفهمنا، ويقبلنا كما نحن نشعر بالوحشة ولو اجتمعنا مع الناس أجمعين، ونشعر بالغربة ولو تحلق حولنا الناس جميعًا.
هذا هو السبب الذي يجعلنا ننزوي في عزلة ونحبس ذواتنا بداخلنا، فقد لا يقدِّر من أشاركه سري ويقابلني باللامبالاة، وقد لا يشعر بألمي، وقد لا يتفهَّمني ويقابلني بالرفض وعدم القبول، فماذا عساني أكون قد جنيت حينها غير الشعور بالخزي والندم!
نعم أعلم أنَّ هذا ما قد يجول ببالك ويجعلك حبيس سجنك وأسير ظلمتك، ولذلك البوح في حاجة أعمق إلى قبول الذات بعيوبها والنظر إليها بإيجابية حتى تستطيع المشاركة والتشارك واللقاء والتواصل، والانفتاح على الآخر يحتاج إلى صدق وصراحة وثقة متبادلة حتى تتحطَّم الحواجز شيئًا فشيئًا، ومثل هذا بحاجة إلى شجاعة من نوع خاص لدفع ثمن العيش بحقيقية، وللوصول إلى الوعي والنضج والاكتمال، وأنا أعلم أنَّك بقدر ما تلجأ إلى أمان الظلام تشعر بوحشته، وبقدر ما تخشى النور تريد ضياءه.
الفكرة من كتاب لماذا أخشى أن أقول لك من أنا؟
إنَّ كلمة (اتصال) تعني عملية تبادل وشراكة، فإذا بُحتُ لك بسرٍّ مثلًا أصبحتَ شريكًا لي، وأمسى سرِّي ملكًا لكلينا، فكيف إذا شاركتك خواطري وأفكاري؟
إن هناك ما هو أعمق يمكن أن أطلعك عليه وتشاركني فيه، يمكن أن أقول لك بصدق من أنا، لكنني عندما أحاول أشعر أنَّ هناك ما يمنعني ويحجزني عن فعل ذلك. ولم أدرِ ما هو حتى بصَّرني الأب جان باول بـ”لماذا أخشى أن أقول لك من أنا؟” في هذا الكتاب.
كان جان باول يريد أن يوضح لنا معنى الاتصال الحقيقي بالآخر، لذا كان بكل ما أوتي من بصيرة وحكمة يغوص في النفس البشرية، ليقرِّبنا من أنفسنا، ولأن الاتصال الحقيقي بالآخر يبدأ في الأصل من الاتصال الحقيقي بالنفس والذات، يقدم لنا المؤلف كتابه هذا ليساعد قارئه على تطوير نظرته إلى ذاته، وعلى تعميق علاقته بالآخرين، واضعًا قدمه على طريق النمو والنضج والكمال.
مؤلف كتاب لماذا أخشى أن أقول لك من أنا؟
جان باول اليسوعي: اسمه الحقيقي يوهان باول فريدريش ريشتر، وهو كاتب ألماني، ولد عام 1763 في فونزيدل، كان ابنًا لأحد المدرسين وعاش في ظروف شديدة الفقر، وتوفي والده مبكرًا، وكان من المفترض أن يدرس جان باول علم اللاهوت في لايبزغ، إلا أنه اتجه إلى الكتابة والتأليف، وبعد فترة إعداد طويلة ورفض دور النشر لأعماله، كتب جان باول أعمالًا جعلته مشهورًا لسنوات قليلة، وأهمها: “سر البقاء في الحب” و”السعادة تنبع من الداخل”، و”حب بلا شروط”.
وعندما كتب أحب أعماله إلى قلبه “تيتان.. سنوات المراهقة” لم يجد نجاحًا يُذكر، فاعتزل الحياة وعاش على هامشها إلى أن تُوفِّي في الثانية والستين من عمره في عام 1825 في بايرويت.