ليس تراجعًا للمسيحية بل تكيُّف للمسيحية
ليس تراجعًا للمسيحية بل تكيُّف للمسيحية
يُعد من الشائع وصف المجتمع الغربي من قِبل أغلب الزعماء والساسة والناس بأنه مجتمع علماني، وعندما يوصف المجتمع الغربي بأنه مجتمع علماني، فإنه يراد إحدى ثلاث: أولًا: تراجع المسيحية المؤسساتية، من حيث عدد الذين يترددون على الكنيسة، وعدد المنتسبين إليها، وعدم توجه الناس في أحوالهم الشخصية من زواج أو مراسم دفن إلى الكنيسة، إلى جانب قلة من يلجؤون إلى طلب الاستشارة من القساوسة، وإذا حدث واستشاروا فإنهم يُستشارون في أمر واحد فقط متعلِّق بالإجهاض، أو الطلاق أو العلاقات الجنسية المثلية. ثانيًا: سيطرة العلمانية على المنتدى العام،
فجميع النقاشات والحوارات في الإعلام والمدارس والجامعات وبين الناس في الأماكن العامة وفي المنزل تُبنى على أسس علمانية، ويُعامل الدين على أنه رأي شخصي وليس حقيقة عامة يلزم الأخذ بها، ويُحصر فقط في المجال الخاص، ويُعتد بالحقائق العلمية وحدها كحقيقة مطلقة. ثالثًا: التعليقات النقدية الصادرة عن الهيئات الدينية التي تصف الغرب بأنه علماني، والتي تشمل اللاهوتيين من المسيحيين والزعماء المسلمين، فهم يشتركون في نقدهم للغرب، ويدينون السلوك الاجتماعي والثقافي الغربي، كالعلمانية والإمبريالية والرأسمالية والنزعة الاستهلاكية وانهيار الأخلاق، والتفكك الأسري، والفردانية والمادية والليبرالية المفرطة والعدائية، والنزعات العسكرية.
وفي الحقيقة إن وصف المجتمع الغربي بأنه علماني هو وصف غير دقيق، لأن الواقع يقول إن هناك نسبة كبيرة وهي الغالبية، يقولون إنهم يؤمنون بالله، ويصفون أنفسهم بأنهم متدينون، وهذا يتضح بجلاء في المملكة المتحدة، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي تُعد أكثر الدول المؤيدة للإيمان، وبناءً على ذلك يرى “غرايم سميث” أن العلمانية ليست نهاية المسيحية، ولا تدل على إلحاد الغرب، بل تُعد إحدى فصول المسيحية، ويبني حجته على أربع أفكار رئيسة: أولًا: أن المسيحية ديانة مرنة ومتطورة، ثانيًا: أن المسيحية القروسطية -مسيحية العصور الوسطى
كانت تعمل بشكل مشابه تمامًا للدين الغربي المعاصر، ثالثًا: أن العلمانية هي انفصال الأخلاق المسيحية عن عقيدتها، وما نراه في الغرب هو ممارسة الأخلاق المسيحية دون العقيدة، رابعًا: أن العصر الفيكتوري كان مجرد حدث استثنائي في ما يخص نشاط الدين المسيحي والممارسات المرتفعة للإيمان والممارسة الدينية، ومن ثم لا يجب أن تتم مقارنة وضع المسيحية في الغرب المعاصر بالمسيحية في الحقبة الفيكتورية، وبناءً على ذلك يتوصل إلى أن العلمانية هي الأخلاق المسيحية منفصلة عن العقيدة، ومن ثمَّ فهي تجلٍّ جديد للمسيحية!
الفكرة من كتاب تاريخ موجز للعلمانية
يحاول الكاتب إثبات أن العلمانية لا تُمثل نهاية الدين وخصوصًا الدين المسيحي في الغرب، كما أنها لا تُعبِّر عن إلحاد الغرب، لأن العلمانية والأخلاق الليبرالية تعتمدان بشكل واضح على الإرث المسيحي، ومن ثمَّ فإنه يرى أن العلمانية هي صورة متطورة وحديثة من المسيحية، وأنها تعبر عن الأخلاق المسيحية منفصلة عن عقيدتها.
مؤلف كتاب تاريخ موجز للعلمانية
غرايم سميث : هو أستاذ لاهوت، وباحث في القضايا المتعلقة بدور الدين في المجتمع، كما أنه أحد المؤسسين لمجلة اللاهوت السياسي، ويعمل محررًا فخريًّا لها، من مؤلفاته:
Oxford 1937: The Universal Christian Council of Life and Work.
معلومات عن المترجم:
مصطفى منادي إدريسي: هو باحث مغربي، مهتم بقضايا العلمانية وتاريخها، حاصل على إجازة في الفلسفة عام 2006، كما حصل على شهادة من المدرسة العليا للأساتذة عام 2007، وترجم عدَّة مقالات ودراسات خاصة بالعلمانية والسياسة.