لغة الصورة
لغة الصورة
كم صورة لديك عندما كنت صغيرًا؟ كم صورة لوالدك عندما كان صغيرًا؟ حسنًا.. كم صورة لولدك الآن وهو ما زال صغيرًا؟!
إننا نشهد عالمًا جديدًا، فقديمًا كانت الصورة تنقل ما هو موجود، أما عالم اليوم فإن الصور هي التي تصنع وتُغيِّر، قديمًا كانت الصور خاصة، أما الآن فكل الصور قابلة للتداول العمومي، فما الذي حدث؟ وما مدى تأثير هذا التغيُّر في عقولنا؟
إن “الصورة” باختصار تعني البديل عمَّا هو كائن، إنها انعكاس للواقع، إلا أن عالمنا اليوم جعل الصورة لغة جديدة، لغة بدلًا من الكلام، فعالمنا لم يعد قابلًا لأن يُحكى، إنه قابلٌ لأن يُرى؛ وبذلك حلَّت لغة الرؤية محل لغة الفِكر.
لقد ماتت اللغة، فالفهم لم يعد يتحقَّق من خلالها، وموت اللغة يعني انتشارًا واسعًا لصور لا معنى لها، وهذا بدوره أدَّى إلى طمس القدرة البشرية لتمثيل الكلمات في الذهن وفي الروح، إن الصورة تُقدِّم الأشياء جاهزة، فبمجرد تحويل وضعية ما إلى شكل بصري فإن الكثير من الأشياء تُختزَل، اللحظة في ذاتها اختُزِلَت، فصارت عابرة لا تحل محل الكلمات والجمل، إنها هشَّة، لا تدوم، إنها تمَّحي دون أن تترك أثرًا، إنها تختفي لتحل محلها صورة أخرى.
لقد فقد العقل البشري قدرته على استعادة الواقع، فقد قدرته على التخيُّل، فقد قدرته على الصبر، وبهذا فقد صار “الحوار” في حالة عاجلة لا تسمح بتبادل المعنى، فأصبح المضمون غير موجود، وبهذا يفقد الإنسان حقيقته تدريجيًّا.
وإذا ما تأملنا حالة الجيل من سن 15 إلى 25 سنة وطريقة استعمالهم للصور في سنابشات مثلًا فإننا نُدرك أنهم على طريقة جديدة من التواصل، وكأنهم يقولون: “إننا نبعث لبعضنا أخبار حياتنا عبر الصورة”، وبهذا حلَّت الصورة محل الكلمات.
الفكرة من كتاب أنا أوسيلفي إذن أنا موجود: تحوُّلات الأنا في العصر الافتراضي
يرفع هاتفه أمام وجهه.. يمد ذراعه.. يبتسم ويلتقط الصورة لنفسه، قد يبدو مشهدًا معروفًا ومفهومًا جدًّا في عصرنا الحديث، لكن دعنا نتوقَّف قليلًا ونتساءل: هل يبدو هذا التصرُّف طبيعيًّا؟ وهل الإنسانية الممتدة من خلال هذا المشهد ستكون طبيعية؟ وهل بالفعل سهَّلت مواقع التواصل الاجتماعي عملية التواصل بين البشر وجعلتهم أكثر قُربًا؟
قد يعتقد كثيرون أنه بالفعل قد أضافت مواقع التواصل الكثير من الفرص إلى الإنسان الحديث، لكن هناك جانبًا مُظلمًا، بل شديد الظلامية في هذه المواقع، إنها تخلق أشكالًا جديدة من الوهم والتضليل والتيه، إذ إن الصور التي تُلتقَط وتنتشر ما هي إلا محاكاة للكثير من التصوُّرات النفسية المشوَّهة التي تحتاج إلى تحليل وتفصيل.
قدَّمت لنا الكاتبة حقيقة الأزمة التي أحدثتها الثورة الرقمية في أنماط رؤيتنا للعالم ولأنفسنا، لنُدرك كيف أن الإنسان الحديث يعيش في سجن وهمي قد بناه بيده، بل وتحذِّرنا مما هو آت!
مؤلف كتاب أنا أوسيلفي إذن أنا موجود: تحوُّلات الأنا في العصر الافتراضي
إلزا غودار: أستاذة الفلسفة ومحلِّلة نفسانية وكاتبة فرنسية من مواليد 1978م، تعمل باحثة جامعية في جامعة باريس كريتاي، كما أنها مديرة أبحاث التحليل النفسي في جامعة باريس، حاملة لدكتوراه في الفلسفة، وعلم النفس، وعلم النفس التحليلي، وهي عضو الاتحاد الأوروبي للتحليل النفسي.
من مؤلفاتها:
Freud à la plage: La psychanalyse dans un transat (A la plag)
Ethique de la sincérité: Survivre à l’ère du mensonge (Hors Collection)
معلومات عن المترجم:
سعيد بنكراد: مفكر وباحث وأستاذ السيميائيات بكلية الآداب جامعة محمد الخامس أكدال بالرباط بالمغرب، وهو المدير المسؤول لمجلة “علامات”، وهي مجلة متخصِّصة في الدراسات السيميائية، وله عدد من الأعمال منها: “وهَج المعاني: سيميائيات الأنساق الثقافية”، و”بيرنار كاتولا: الإشهار والمجتمع”.