كل الناس عابرو سبيل!
كل الناس عابرو سبيل!
خلق الله الخلق وهداهم لما خلقهم له وقدَّرهم له ويسرهم لذلك، وخلقهم في كبد يحيط بهم، فالدنيا دار بلاء وليست دار جزاء، وهي ملعونة وملعونٌ من فيها إلا ذكر لله وما والاه أو عالم أو متعلم كما جاء في الحديث، والناس كلهم يعملون إما لدين وإما لدنيا، فكل الناس يغدو ويتحرَّك ويتألم لهدفه ويكابد ويجاهد له، وغرضه من ذلك إما دفع ألم وهم أو استجلاب لذة وسعادة.
ومن تفكَّر وتدبر الأعمال والأحوال ظهر له أن أعمال الدنيا يعقبها حزن وألم، وإن طالت لحظات سعادتها ولذتها فهي لذات عاجلة منقضية مُنَغَّصَة بأنها زائلة لا محالة، ومن تدبَّر أعمال وأحوال الآخرة وجدها دائمة خالدة، والنفس تحب الخلود في السعادة والفرار من الألم والهم، ولا يكون ذلك إلا في الآخرة، ومن لطف الله وسعة كرمه أن جعل في الدنيا لذة معجَّلة يجدها أصحاب الإيمان واليقين وأهل العلم بالله ومن هم بصحبة القرآن، وكثيرة هي القصص التي يخبر أصحابها أنهم يجدون في صدورهم لذة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدوهم عليها بالسيوف، بل وكان ابن تيمية على الرغم من كل المحن التي مر بها كان يقول: “ماذا يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي”.
ومن لم يدفع همه وحزنه وألمه بالتعلق بالآخرة والعمل لها وتسيير حياته الدنيوية لأجلها، عمل وكدَّ ودفعَ همه وألمه تجاه شيء آخر، فتراه يسعى وراء الوظيفة سعيًا مضنيًا ليسد احتياجًا وفراغًا بداخله ويدفع ألمًا من خلال جني المال، ومنهم من يسعى خلف السلطة والجاه، ومنهم من تدنَّى إلى منزلة أقل من منزلة البهائم، فتراه يدفع ألمه ويستجلب لذَّته من الطعام والشراب والنكاح فحسب، وكلها بخلاف الإيمان والعمل للآخرة لذَّاتٌ منقضية لا تبقى، بل وتتجدد ولا تنتهي فلا يشعر المرء تجاهها برضا ما لم يوجهها التوجيه الصحيح، وهذا حال من ترك الدين جانبًا وهو مشاهد معلوم في كثير من المجتمعات التي نصبت المادة تلقاء وجهها فهي تلهث خلفها أينما كانت، وكما يقول ابن حزم فإن “باذل نفسه في غرض دنيا كبائع الياقوت بالحصا” وشتَّان الفارق!
الفكرة من كتاب مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق
أصدق المعاني معانٍ ذاقها أصحابها بعد مرارة التجارب وتتابع الأيام وتراكم الخبرات ثم أخرجوها إلى الناس صادقة واضحة نافعة مصبوغة بصبغة الصفاء والعفوية والسهولة غرضهم فيها أن ينتفع أصحابها كما انتفعوا هم، لكنه مهما بلغ المعنى من الوضوح والجلاء والصحة أن يُستَوعَب إلا أن النفس تتوق إلى التجربة وخوض الحياة لتصنع تجربتها الخاصة وتستخرج معانيها هي، وليس الخبر كالمعاينة! وهذا ما سنتبينه في هذا الكتاب.
مؤلف كتاب مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق
أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، ولد بقرطبة لأب ترأَّس الوزارة أيام الدولة العامرية، ثم ترأَّس هو نفسه الوزارة أيام المستظهر بالله العامري، ثم أيام المعتد بالله وتركها ليتفرَّغ لعلوم الإسلام قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره.
كان صاحب أسلوب وبلاغة وحجَّة، وكان يُعاب عليه اندفاعه وحدَّته في تناول آراء ومذاهب وأشخاص خصومه من علماء عصره.
ومن أبرز مؤلفاته:
الناسخ والمنسوخ.
الفصل في الملل والأهواء والنِّحل.
طوق الحمامة.
المفاضلة بين الصحابة.