كد وعمل
كد وعمل
بدأ الصبي عمله في ورشة للعطور بعيدًا عن البيع والشراء فلم يرضِ ذلك شغفه، وتركه بعد شهر موضحًا أسبابه لأخيه الذي تفهَّمه وقدره دون سخرية ووعده بالبحث عن عمل يرضيه، وخلال أيام جاءه بعمل في محل خردوات وأدوات مكتبية وسجائر لتاجر اشتهر بـ”عم رزق”، كان رغم غلظة أسلوبه فطنًا ناجحًا يبيع الكثير بهامش ربح قليل يساوي 2%، وكان ذلك هو الدرس الأول والأهم الذي تعلمه في عالم التجارة تحت مسمى “سرعة دوران رأس المال”.
استمر عند العم رزق سبع سنوات، تعلم فيها أصول التجارة القطاعي، وقدم خلالها الكثير للمكان حتى استأمنه الرجل على مفاتيحه، ومر خلال تلك الفترة بمواقف مؤلمة كيوم صفع ثلاث مرات من ثلاثة أشخاص مختلفين، ورغم بكائه وإحساسه بمرارة الظلم تعلَّم أن يحذر الناس في تعاملاته ويطيع الأوامر.
ولم ينسَ السبب الذي جعله يغادر عمله بلا رجعة، ففي إحدى المناسبات وصل “محمود” الليل بالنهار واستقبل الزبائن وأحضر البضاعة عدة مرات وحقق أعلى أرباح حصل عليها المحل لكن عم رزق قام بأخذ النقود ولم يكافئه أو يعطه قدره فأقسم الصبي ألا يعود إليه، نعم استاء حينها إلا أنه بعد فترة أدرك الغاية مما حدث في إجابة سؤال بسيط: ماذا لو كان عم رزق قد أعطاه حقه ذلك اليوم؟
كان الشاب صاحب السبعة عشر عامًا قد اكتسب ثقة ولباقة جعلتاه يعمل في شركة النصر للتجارة بالجملة لصاحبها الحاج عبد الفتاح المتسم بالأخلاق الفاضلة، لم يصرِّح الشاب بسبب تركه لعم رزق كي لا يسيء إلى الرجل الذي أحسن إليه سابقًا، بل أخبر رب عمله برغبته في تعلم أصول الجملة، وكانت الإجابة بتوفيق من الله ومبدأ استمر عليه حتى النهاية.
تلك الأعمال وإن بدت مضنية لشاب صغير فإنها وبفضل الله انتشلته من سموم الفراغ، فحفظته فترة المراهقة وجعلته مقدِّرًا لقيمة العمل.
الفكرة من كتاب سر حياتي: حكاية العربي
من طفل يتاجر في قروشه المعدودات إلى ملياردير جل همه توظيف أكبر عدد من العاملين ليكون لهم عونًا وسببًا بعد الله (عز وجل)؛ إنه رجل الأعمال المصري والاقتصادي المحترف، رئيس اتحاد غرف تجارة مصر “محمود العربي”، الذي أسر الجميع بحسن خلقه وأسسه القويمة، مع انتماء غير مسبوق إلى أصله البسيط ونشأته الدينية في قرية أبو رقبة بالمنوفية، كتب قصته مذ كان في الخامسة من عمره بشقاء وكد لا يعرف الاستسلام، وبتضحيات حقيقية تخلو من كل رياء وتكلُّف وزهو، بل يزينها الصدق والأمانة وحفظ الحقوق كمفاتيح سرية لكسب القلوب ونيل البركة، وقد نجح في ذلك حتى كانت جنازته (رحمه الله) مهيبة غير مسبوقة يعتصرها الألم على المفقود، وها نحن نستدرك أجزاء من حياته علَّنا ننتفع بما تركه من أثر طيب ومنهاج في الإدارة والأخلاق والتجارة على حد سواء، ثم نترحَّم عليه وندعو له بخير الجزاء، فسيرته الحسنة هي رزق من الله لعبده، وعمر آخر لا يفنى بفناء الجسد.
مؤلف كتاب سر حياتي: حكاية العربي
خالد صالح مصطفى السيد: كاتب ومهندس ومستشار إعلامي من مواليد القاهرة عام 1962، حاصل على بكالوريوس الهندسة من جامعة القاهرة عام 1985، وقد شارك في كثير من الأعمال متباينة المجالات كوضع مناهج تربوية وبرامج ترفيهية وتنموية لعدد من رياض الأطفال بالقاهرة، وكتابة السيناريوهات والمسرحيات والمقالات وتنفيذ ورش العمل الفنية والتنموية، فضلًا عن مهام الإشراف على تطوير مجلة نقابة المهندسين المصرية.