كبح الجماح.. كل ما تشاء ولكن
صفة التسامح المشهورة عن المسيحية تفرض نفسها أيضًا بشدة على المطبخ المسيحي، فلا توجد الكثير من القيود أو المحرمات في ما يخص الغذاء في الأوقات الطبيعية، وموقف الديانة المسيحية المتسامح مع الخنزير والمضاد للإسلام واليهودية يدلل على عدم تفضيلها لأنواع معينة من الأطعمة على أخرى، وحتى رغم السمعة السيئة للخنزير في الشرق الأوسط بوصفه حيوانًا ناقلًا للعدوى ورمزًا للقذارة تمت مركزته في المطبخ المسيحي كممثل له بالكامل، وبالطبع الخنزير بوصفه حيوانًا داجنًا يمتاز بكفاءة اقتصادية هائلة؛ آلة حيوانية تحول القمامة إلى لحوم ذات تركيز دهني مرتفع، ولكن لوضع المسيحيين الحساس كونهم أقلية في الشرق الأوسط وفي مصر تحديدًا كان عليهم أن يُنحوا هذا الرمز ذا السمعة السيئة لصالح التماهي مع بقية المجتمع، حتى ولو على حساب ملذات أُخرى وذات رمزية أكثر ارتباطًا من الخنزير وهذا هو المطبخ القبطي، مطبخ التماهي.
ربما كان التعامل مع الخنزير وتحييده من الهوية القبطية يسيرًا بعض الشيء، ولكن ماذا سوف يحدث لأيقونة المسيحية والشاهدة على العديد من معجزات المسيح إذا كانت غير مُرحب بها اجتماعيًّا في أحسن الأحوال ومنبوذة في معظمها؟ كانت الخمر تتمتع بمنزلة مرموقة طوال التاريخ المسيحي وبالنسبة إلى مصر في العصور الهادئة كانت علاقة المجتمع بأكمله معها يشوبها جو من الإقدام والإحجام مع عدم نفور عام، لم يتبقَّ للمسيحيين من تلك الأزمنة سوى زجاجة مُهملة من عصر الجدود تنتظر عودة الوصال والأيام الخوالي، وأخذت الخمر مكانها في المطبخ المصري منذ زمن بعيد أيضًا، وبرز مشروب الزبيب الصعيدي بوصفه الممثل الخمري المصري وسط الأنواع الدولية، ثم بدأت السوق المصرية تلبي حاجاتها بنفسها وتوفر البدائل المحلية الصنع لمستهلكيها، وعلى قدر حجم السوق والتنافسية كانت الجودة مُحمسة بالتأكيد ولكن في أحيان كثيرة لا خيار غيرها، يظهر هنا انتصار آخر للواقع الاجتماعي ومسايرة المزاج المسيحي له.
الفكرة من كتاب غذاء للقبطي: دروس من المطبخ القبطي
هنا ننظر بشيء من التفصيل إلى جزء مُهمل بعض الشيء من الشخصية المسيحية، ونتعرف تفاصيل تخص الطعام وأشياء أقل أهمية، فإذا كان الحديث عن التاريخ أو المجتمع المسيحي، قفز المطبخ في الحال إلى المقدمة ممثلًا للشخصية المسيحية وتاريخها، وذلك لأن المطبخ القبطي لا يتوقف عند المأكول والمشروب فقط، ولكنه يحمل أبعادًا أخرى وتراكمات خاصة بتاريخ المصري المسيحي، وطبيعة علاقته مع المجتمع المحيط به في مختلف أمزجته وحالاته.
مؤلف كتاب غذاء للقبطي: دروس من المطبخ القبطي
شارل عقل: كاتب مصري من مواليد الإسكندرية عام 1983 م، تخرج في قسم العمارة بكلية الفنون الجميلة، عمل كاتبًا حرًّا في مجلة “أمكنة” ومجلة “مجاز” ويقيم حاليًّا بالعاصمة الصينية بكين متفرغًا للدراسة والكتابة، من أشهر أعماله:
_ رواية أحمر لارنج.
_ سيناريو فيلم لمبة نيون.
_ الرواية المصورة: قنديل الجو.