قليل من الرحمة ينقذ العالم
قليل من الرحمة ينقذ العالم
على قطار الإسماعيلية الحربي كان جندي يجلس بجوار النافذة ليأنس بخضرة الريف ومناظر القرى الآمنة وفجأة سقطت قطرة من الدم على يده التي يتكئ بها على نافذة القطار ولم يلقِ لها بالًا، فمسحها ثم واصل استغراقه في أفكاره التي تتنافس مع سرعة القطار، ولكن القطرة الثانية التي سقطت حفزته للبحث عن مصدر هذه الدماء.
أخرج رأسه من نافذة القطار ونظر إلى أعلى فوجد خيطًا من الدم ينساب من فوق عربة القطار ويتدلى من فوق هذه العربة أطراف حذاء عسكري، فأدرك الأمر بسرعة، إذ وجد بالأعلى جنديًّا مصابًا فصرخ في من حوله وهرول ليطلب من مسؤولي القطار إيقافه بأسرع وقتٍ ممكن، وما كان منهم إلا الحضور بسرعة وشاهدوا خيط الدماء والحذاء العسكري المطل من فوق عربة القطار ولكنهم أصروا على استحالة إيقاف القطار إلا في أقرب محطة وإلا حدثت كارثة للقطار ومقابلة القادم على نفس الخط.
وأجمع الحاضرون على أن الجندي قد ارتطمت رأسه بسقف إحدى القناطر التي يمر تحتها القطار وأنه غالبًا مات، وقد كان! فحين توقف القطار قال الجندي للمسؤولين عن القطار إنه طبيب وطلب منهم السماح له بالصعود لعله ينقذ ما يمكن إنقاذه إلا أن رأس الجندي كانت مهشمة إثر اصطدام قوي بجسمٍ صلب وقد فارق الحياة تمامًا وملابسه كلها غارقة في الدماء.
حملوه إلى المحطة وسلموه للشرطة العسكرية التي بدأت جرد ملابسه ومتعلقاته الشخصية، وكان من ضمن ما يحمله برقية كتب فيها (احضر حالًا والدك قد توفي)، ولم يكن بإمكان الجندي سوى العودة إلى مقعده شاردًا غير قادر على الحديث، متسائلًا: “هل لوطن كهذا قاسٍ على أولاده أن ينهض؟” قليل من الرحمة يمكن أن تنقذ عالمًا بأكمله.
الفكرة من كتاب مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس
على ضفة قناة السويس دارت رحى الحرب بين مصر وإسرائيل فيما يعرف بحرب الاستنزاف، أو حرب الألف يوم، وحدث العديد من المناوشات بين الفينة والأخرى، بالإضافة إلى بعض المعارك الصغيرة أو التسلل إلى الضفة المقابلة وإيقاع خسائر في الجيش المقابل، وقد كانت المدافع المصرية منصوبة في وجه المدافع الإسرائيلية في قطاع شرق الإسماعيلية حيث كانت كتيبة المؤلف؛ فيروي لنا أحداث ما رآه من هذه الحرب، وأحداث رفاقه وأحلامهم وطموحاتهم وحماسهم وبسالتهم وأيضًا خوفهم، وقد كتبها بدافع من يريد إظهار بطولات الجنود البسطاء المنسيين على الحدود حتى تشعر أنك ترى الحرب وأحداثها ماثلة أمامك لا كاتب ينقلها لك ويتأثر بانفعالاته وانحيازاته؛ إنها بحق عمل جليل.
مؤلف كتاب مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس
أحمد حجي: كاتب، ولد عام 1941 بقرية ميت جراح بمحافظة الدقهلية، وتخرَّج في كلية الطب البيطري عام 1967، وبدأ نشاطه الاجتماعي في أواخر الخمسينيات، ففتح مدرسة لمحو أمية الفلاحين والعمال والنساء في قريته بالدلتا، وجُنِّد بالقوات المسلحة عام 1968 في مكان آمن بالقاهرة، لكنه طلب بنفسه الذهاب إلى الجبهة حيث تولى الشؤون الطبية في الكتيبة التي خدم بها على جبهة القناة حتى استشهاده عام 1972.
له مقالات في الثقافة والفن ومحو الأمية، نُشر أغلبها في مجلة “الطليعة”، وصدرت له عدة كتب، منها: “الكلمات والبارود”، و”الفلاحون والعمل السياسي”، و”محو الأمية عمل لا بد منه”، ومنعت الرقابة صدور كتابه “مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس” عام 1972، ثم ها هو بين أيدينا الآن.