في مكانة الصداقة
في مكانة الصداقة
لا يخفى كون الصداقة من النعم العظيمة في حياة الإنسان، حيث لا يقدر الإنسان أن يحيا بمفرده في هذه الحياة من تغيُّرات وتقلُّبات، ومع احتياجه بالغريزة التي وضعها الله فيه إلى الأُنسِ بِأُناسٍ آخرين.
ولذلك كانت للصداقة مكانة عظيمة في القلوب، ولكن لم تلبث هذه المكانة أن تضاءلت على مر العصور، حتى قلَّ وجود من يأتي الصداقة حقها.
ولذلك قلَّت الصداقة الحقة، وكثر التعادي والخلاف والفرقة بين الإخوان، إما لضعف مكانة الصداقة في النفوس، وإما بسبب سوء اختيار الصديق.
أمَّا سوءُ اختيار الصديق فيتغلَّب عليه بمعرفة صفات الصديق وخلاله كي يبحث عنه ويعرف عندما يأتي،
وأمَّا ضعف مكانة الصداقة في النفوس، فيتغلَّب عليها بسماع ما قيل في فضل الصداقة لتعظم مكانتها في النفوس من جديد.
ونورد الآن أهم الأقوال التي وردت في مكانة الصداقة لتستعين بها على مرادك:
قال أبو حامد السجستاني: “إذا مات لي صديق سقط مني عضو”، وقال جعفر بن محمد (رضي الله عنه): صحبة عشرين يومًا قرابة، وقال عبد الله بن مسعود: “ما الدخان على النار بأدل من الصاحب على الصاحب”.
وقال أحد الشعراء عن الأصدقاء:
أنتم وإن بعدت عنا منازلكم * نوازل بين إسراري وتذكاري.
فإن تكلَّمتُ لم ألفظ بغيركمُ * وإن سكنتُ فأنتم عقد إضماري.
وقال شاعرٌ آخر:
تكثَّرْ من الإخوان ما استطعتَ، إنهم * كنوزٌ إذا ما استُنجِدوا، وظُهُورُ.
وما بكثيرٍ ألفُ خِلٍّ وصاحبٍ * وإنَّ عَدوًّا واحدًا لكثيرُ.
وقال أعرابي: “أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيَّع من ظفر به منهم”.
ولأجل هذه المكانة، جعل بعضهم مكانة الصديق فوق مكانة الحبيب والعشيق.
فإن العشيق أقصى ما تبذله له أن تخلط له الصدق بالكذب، لتنال نصيبًا من النظر والالتفات إليك.
أمَّا الصديق فلا تحتاج معه إلى الكلفة لتنال ما عنده، ولا إلى الكذب ليثق بك.
ولذلك قيل: “الصداقة أذهب في مسالك العقل، وأدخَل في باب المروءة، وأبعد عن نوازي الشهوة، وأرمى إلى حدود الرشاد، وآخَذ بأهداب السداد”.
أما العلاقة فكثيرًا ما تتسم بالكُلفةِ، والولعِ بالعشيق وما يصاحبه من شدة الوجد من عشقٍ أو حزن، وهذه الأشياء أمراض للنفس لا دخل للعقل فيها، وتحول بين صاحبها وبين التحلِّي بأنوار العقل وفضائل الأخلاق وفوائد التجارب.
الفكرة من كتاب الصداقة والصديق
يقال إن الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بطبعه، أي إنه لا يستطيع أن يحيا بمفرده دون أُناس آخرين، ولكن علاقات البشر لا تتبَعُ نمطًا واحدًا، بل يحكمها الكثير من المتغيرات لأن طبيعة الإنسان نفسها على درجةٍ عاليةٍ من التعقيد والتركيب الذي لا يخضع لتصنيف.
وأثناء رحلة الحياة يقابل الإنسان الكثير من الأشخاص، يربطه ببعضهم نوع علاقة ويعرض عن البعض الآخر، وعلاقاته ليست على وتيرةٍ واحدة، فمنها ما يقع تحت حيز التعارف، ومنها ما يصل إلى درجة الصداقة، ومنها ما يصل إلى حد العشق والحب .
ولمَّا كان للصداقة النصيب الأكبر من العلاقات في حياة الإنسان، أصبح لها مكانةٌ عظيمةٌ في النفوس.
فما مكانة الصداقة؟ وما صفات الصديق وخلاله وخصاله؟ وما الفرق بين الصداقة وغيرها من العلاقات؟ وهل يُمدح العتاب بين الأصدقاء أم يُذم؟
هذا ما سنتعرَّف عليه في ثنايا الرسالة التي بأيدينا.
فقد ألَّف أبو حيان هذه الرسالة عن الصداقة والصديق على نسق لم يسبق إليه أحدٌ قبله، أورد فيه قدرًا كبيرًا من أقوال الحكماء والشعراء حول موضوع الصداقة.
وكما يقول عن موضوع الرسالة هو موضوع لا يستقصي ما قيل فيه، ولو أردت الاستقصاء لمَا انتهيتُ من ذكر الأقوال، ولكن أورد أهم ما قيل فيه حتى لا تبعث هذه الرسالة على الملل والضجر.
مؤلف كتاب الصداقة والصديق
أبو حيان التوحيدي: فيلسوف وفقيه وأديب، عاش في القرن الثالث الهجري، وكان من أكثر أهل عصره معرفةً في مختلف العلوم.
كانت حياته مليئة بسوء الحظ وإعراض الدنيا عنه، ولا عجب أنَّ رجلًا بمثل ما كان عليه أبو حيان من العلم مع عدم بذل الدنيا له إلا القليل أن يصيبه بعضُ السأم والضجر من الحياة، ويُروى عنه أنه أحرق جميع كتبه قبل موته، ولذلك لم يصل إلينا منها إلا القليل.
له عدة مؤلفات أخرى وصلت إلينا مثل كتاب “البصائر والذخائر”، وكتاب “الإمتاع والمؤانسة”.