في فصل الخيانة
في فصل الخيانة
تمثِّل القصة وجهًا آخر من أوجه الخيانة المتحدَّث عنها، تلك التي تودي بأجساد المناضلين وتعرقل أهدافهم، بل أهداف وطن مصيره معلَّق على مجهود كل فرد صادق في جهاده متسم بالوطنية الحقيقية، أما القصة المكتوبة فهي قصة كل مقاوم، على أنه يذكر في بدايتها أنها قصة مكتوبة يحتار الكاتب في نهايتها، ويتفنَّن خلالها بالتحرُّر من الافتعال، فيلجأ إلى آراء أصدقائه ليضع خاتمة واقعية، في إشارة منه إلى ما تمنَّاه من امتلاك المقاومين قدرة السرد أو حتى لو أن الكتَّاب أجادوا التوصيف البعيد عن الابتذال أو المبالغة، بعيدًا عن الحبكات الدرامية، ملتزمين بالرواية الصادقة، فلو كانوا كذلك لكانت المكتبات اليوم زاخرة بالحكايات التي تمجِّد بصدق شأن العرب وقضاياهم، فما تلك القصة المفقودة نهايتها؟
يكتب في مطلعها أنها عن رياض، شاب مرتبط بقضيته الوطنية ارتباطًا وثيقًا صادقًا شكَّل وجدانه فصار مثالًا للإعجاب يفرض نفسه على المحيطين أو المشكِّكين به، سافر الفتى إلى الأردن بعد الانتكاسة الأخيرة حتى يستكمل بها نضاله الصامت غير المهدَّد، اتخذ رياض من غرفة صغيرة منفردة دارًا له، وتقع هذه الغرفة بمنزل زوجين في منتصف العمر نشأت بينهم جميعًا علاقات ودية وسهرات أسرية تجمع رياض بالزوج والزوجة الأمية، استمر الشاب في عمله بدقة وحرص شديدين، وبثبات يمدُّ من حوله بالقوة والصبر، حتى ألقت الشرطة القبض عليه، من هنا توالى التعذيب باختلاف ألوانه وطرقه، وعلى شدَّته احتفظ الفتى بصمته ونفي التهم، إلى أن ووجِهَ بأوراق مدوَّنة ليست من خطه، أدرك حينها أن الخيانة كانت من الزوجين، ونخصُّ ذكرًا الزوجة التي ادَّعت الأمية وهي المنتسبة إلى حزب الفئة الحاكمة، وكانت تلك الجلسات المؤنسة تجسُّسًا أودى بالشاب المقاوم سجينًا معذبًا لا نجد له من ذنب، إلى هنا تنتهي القصة المكرَّرة بشكل واسع، فاختلاف النهاية والأحداث القادمة لإرضاء جمهور القراء لن يغيِّر الكثير، بل ربما يضعفها، لذا لنترك النهاية ونحاول تفسير رمزياتها المقصودة على ما هي، فذلك واقعي أكثر أو بالأحرى قد حدث بالفعل!
الفكرة من كتاب القميص المسروق
“القميص المسروق” قصة قصيرة يُعنون بها الكتاب ولم يقتصر عليها، فجاءت معها سبع قصص أخرى مما دوَّنه المؤلف خلال حياته، ثم جُمِعت في كتاب واحد بعد موته، وهذه الحكايات مجتمعة تخدم قضية واحدة وهي القضية الفلسطينية والقومية العربية، ولو نظرت إليها فرادى لوجدت كلَّ نص يقوم على سطر مفجع، يختلف عن الآخر في موضوعه والغاية التي يمثلها، تنوَّعت تلك الغايات فشملت الإنسان وعديد القيم كالكفاح والتضحية وحب الوطن، ومشاعر سلبية كاليأس وقتل الأحلام، وبعضها قد ناقش معضلات أخلاقية مستعصية كالخيانة على سبيل المثال لا الحصر، فهل تُفضَّل العلاقات الأسرية على الأرض؟ أم أن الوطن فوق الجميع؟ وهكذا يستمر الطرح والجواب في سياق أدبي قائم على الرمز دون الإكثار من المترادفات والإغراق في البيان والفلسفة، وهذا جُل ما يميز أسلوب غسان كنفاني.
ربما يظن البعض أن التلخيص قد يبخس جودة المنتوج الأدبي المعتمد أساسًا على إبداع الكاتب نفسه ومفرداته وتعابيره المنتقاة، بما لا يدع مجالًا لإنكار هذا الجانب، لكننا ننوِّه أن الملخص بحد ذاته وسيلة أدبية أيضًا وله جماله وغرضه، بما لا ينتقص من قدره ولا من قدر العمل الأساسي، بل هو أشبه بوسيلة عرض أعيدت هيكلتها لتنجزك وقتًا وتزيدك علمًا.
مؤلف كتاب القميص المسروق
غسان كنفاني أديب المقاومة، صاحب القلم الصارخ والكلمات المنتفضة في وجه الاحتلال الغاشم، وُلِد الصحفي والكاتب فلسطيني الهوية في عام 1936م، ملتحقًا فيما بعد بجامعة دمشق لدراسة الأدب العربي، ليصبح من أشهر أدباء العرب وأحد أبرز الناشطين السياسيين في العصر الحديث، له من المؤلفات ثمانية عشر كتابًا بين الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والدراسات، والمئات من المقالات السياسية والثقافية، منها المجموع بعد موته ومنها ما اتخذ سبيله إلى العالمية، فترجم إلى لغات بلغت العشرين، ومنها ما صيغ في قالب مسرحي أو إذاعي عُرِض على صعيد الدول العربية والأجنبية، وانضم بعضها إلى صفوف المنهاج الدراسي في المدارس والجامعات، ومن أشهر تلك الروايات: “عائد إلى حيفا”، و”أرض البرتقال الحزين”، و”رجال في الشمس”.
لم يُسلَّح غسان بالشكل المعتاد العاكس للدموية، لكن وقْع ما خطَّ كان وما زال محركًا فعالًا للنفوس الثكلى والعقول الحية، وبات بمنتوجه الأدبي يمثل تهديدًا على المحتل الهش، فاغتيل إثر ذلك في بيروت عام 1972م.