في صفات الصديق
في صفات الصديق
أمَّا ما ورد في صفات الصديق فهو أكثر من أن يُحصى، وبالجملة فإن كلَّ صفةِ كمال يمكن أن يتحلَّى بها الإنسان يستحبُّ وجودها في الصديق.
ومن هذه الصفات في الصديق:
أن يقف بجانبك عند شدائد الدهر، ويعينك عليها بنفسه وماله وما يملك، قال الإسكندر لأحد الحكماء: بمَ يعرف الرجل أصدقاءه؟ قال بالشدائد لأن كلَّ أحدٍ في الرخاء صديق.
ومنها أن يتصف بكمال الأخلاق، فإن خير الصديق يتعدَّى إلى من يصادقه، قال النبي (صلى الله عليه وسلم): “مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً”.
ومنها أن يتصف بكمال العقل، فإن الخُلُق كما هو دليلٌ على أصلِ الإنسانِ ومعدِنِهِ، فإن كمال العقل دليل على دوام الترقِّي والسعي وراء ما هو أكمل.
وقد قيل:
وما بقي من اللذاتِ إلا محادثةُ * الرجالِ ذوي العقولِ.
وقد كانوا إذا عُدُّوا قليلًا * فقد صاروا أقلَ من القليلِ.
ومنها أن يجمع بينكما قُربٌ وتشابه فإن الأشباه تتجاذب، قيل إلى أرسطو: من الصديق؟ قال هو إنسان هو أنت إلا إنه بالشخص غيرك، أي إنه لمَّا اتحدت خلائله وصفاته معك صار كأنه أنت.
ومنها أن يتصف بخلق الصبر والتغاضي، فإن الصداقة لا تخلو من قليلِ أذى يصيب الصديق من صديقه لأن طبائع البشر مهما تشابهت فلا تخلو من نوع اختلاف.
فليس هناك أفضل من الصبر والإغضاء، ودفع الوقت، وطرح الأذى عن الفكر.
يقول أبو حيان وأنا أقول ذلك أيضًا لأني نظرت في حال الإنسان فلم أجد له خيرًا من الصبر، فيه يقاوم المكروه، وتستدفع البليَّة، وبه يؤدَّى شكر النعمة.
ولا تقتصر صفات الصديق على ما ذكرنا من الصفات، فإن كل صفة كمال يستحب وجودها في الصديق كما عرفت، ومثل ما ذكرنا من الصفات في الصديق كمن قال فيه الشاعر:
له خلائق بيضٌ لا يُغيِّرُها صَرفُ * الزمانِ، كما لا يصدأ الذهبُ.
ولأن وجود هذا عزيز ونادر، فلا مانع من أن نورِد بعض ما قيل في ندرة وجود مثل ذلك الصديق.
الفكرة من كتاب الصداقة والصديق
يقال إن الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بطبعه، أي إنه لا يستطيع أن يحيا بمفرده دون أُناس آخرين، ولكن علاقات البشر لا تتبَعُ نمطًا واحدًا، بل يحكمها الكثير من المتغيرات لأن طبيعة الإنسان نفسها على درجةٍ عاليةٍ من التعقيد والتركيب الذي لا يخضع لتصنيف.
وأثناء رحلة الحياة يقابل الإنسان الكثير من الأشخاص، يربطه ببعضهم نوع علاقة ويعرض عن البعض الآخر، وعلاقاته ليست على وتيرةٍ واحدة، فمنها ما يقع تحت حيز التعارف، ومنها ما يصل إلى درجة الصداقة، ومنها ما يصل إلى حد العشق والحب .
ولمَّا كان للصداقة النصيب الأكبر من العلاقات في حياة الإنسان، أصبح لها مكانةٌ عظيمةٌ في النفوس.
فما مكانة الصداقة؟ وما صفات الصديق وخلاله وخصاله؟ وما الفرق بين الصداقة وغيرها من العلاقات؟ وهل يُمدح العتاب بين الأصدقاء أم يُذم؟
هذا ما سنتعرَّف عليه في ثنايا الرسالة التي بأيدينا.
فقد ألَّف أبو حيان هذه الرسالة عن الصداقة والصديق على نسق لم يسبق إليه أحدٌ قبله، أورد فيه قدرًا كبيرًا من أقوال الحكماء والشعراء حول موضوع الصداقة.
وكما يقول عن موضوع الرسالة هو موضوع لا يستقصي ما قيل فيه، ولو أردت الاستقصاء لمَا انتهيتُ من ذكر الأقوال، ولكن أورد أهم ما قيل فيه حتى لا تبعث هذه الرسالة على الملل والضجر.
مؤلف كتاب الصداقة والصديق
أبو حيان التوحيدي: فيلسوف وفقيه وأديب، عاش في القرن الثالث الهجري، وكان من أكثر أهل عصره معرفةً في مختلف العلوم.
كانت حياته مليئة بسوء الحظ وإعراض الدنيا عنه، ولا عجب أنَّ رجلًا بمثل ما كان عليه أبو حيان من العلم مع عدم بذل الدنيا له إلا القليل أن يصيبه بعضُ السأم والضجر من الحياة، ويُروى عنه أنه أحرق جميع كتبه قبل موته، ولذلك لم يصل إلينا منها إلا القليل.
له عدة مؤلفات أخرى وصلت إلينا مثل كتاب “البصائر والذخائر”، وكتاب “الإمتاع والمؤانسة”.