فلسفة الموقف
فلسفة الموقف
الكل لديه نظرته إلى الصراع وقناعاته المتعلِّقة بالنزاعات، ربما نعتاد سماع التحليلات من ساسة البلاد والسياسيين المحنَّكين أو حتى المغمورين، وقد يتحدَّث عنها الجنود وقادة الجيوش أو العامَّة من رجال ونساء باختلاف أعمارهم وأدوارهم المجتمعية، لكن ماذا إن رأيناها بمنظور الفلسفة؟ زد على تصوُّرك إن كان المتفلسف مقاومًا نشأ على السؤال وابتكار التحليل الواصف لكل حادث يمر، وفي الآن نفسه على أتم استعداد لبذل روحه فداء تطبيق مبادئه التي يبحث عنها في ذاته وفيمن حوله، فالقرارات الموجزة ليست مجرد عنوان للقصة، بل هي مبادئ خلقتها المواقف، ثم تطوَّرت مع تطوُّر الشخصية الأساسية عبدالجبار، الصبي الذي أمضى عمره يفكِّر في الحياة التي وجد فيها دون رغبة، لكن هل بإمكانه اختيار النهاية؟ من هنا استنتج قراره الأول: “الموت هو خلاصة الحياة”، واتخذ قراره بأن يكون متطوعًا مقاومًا، لكن الأمر تطلَّب ما هو أكثر من القرار، تطلَّب منه أن يجد السلاح فعدَّل قراره الأول ليصبح: “ليس المهم أن يموت الإنسان ليحقق فكرته النبيلة، بل المهم أن يجد لنفسه فكرة نبيلة قبل أن يموت”، وخلال تأبين شهيد أمي ليس له من العلم إلا الهدف الذي أعطاه عمره استنتج قراره الثالث: “إن الفكرة النبيلة لا تحتاج غالبًا إلى الفهم”، وفي استشهاد شاب آخر مضحيًا بنفسه قال: “إن الشجاعة هي مقياس الإخلاص”.
في إحدى مهامه أُلقيَ القبض عليه، وسيق ليعذَّب فأدرك خلال تعذيبه أن “ضرب السجين هو تعبير مغرور عن الخوف”، وهو ما أعانه على الصمود والمقاومة، حتى أخبروه برغبتهم في تجنيده لصالحهم، حتى يتمكَّنوا من الدخول إلى متراس الثوار، وهو ما سيضمن له عيشة كريمة مرتاحة فأدرك في نفسه قراره الموجز رقم ستة: “إن الخيانة في حد ذاتها ميتة حقيرة”، حتى إذا ما سيق إلى المتراس ومن خلفه جنود العدوان بأسلحتهم والرشاش موجه إليه مشيرين له بالبدء قال لزملائه بعلو صوته: “أحضرت لكم خمسين جنديًّا”، فأجهزوا عليه وقبل أن يلفظ أنفاسه نطق بقراره الموجز الأخير: “ليس المهم أن يموت أحدنا.. المهم أن تستمروا”، ثم مات.
الفكرة من كتاب القميص المسروق
“القميص المسروق” قصة قصيرة يُعنون بها الكتاب ولم يقتصر عليها، فجاءت معها سبع قصص أخرى مما دوَّنه المؤلف خلال حياته، ثم جُمِعت في كتاب واحد بعد موته، وهذه الحكايات مجتمعة تخدم قضية واحدة وهي القضية الفلسطينية والقومية العربية، ولو نظرت إليها فرادى لوجدت كلَّ نص يقوم على سطر مفجع، يختلف عن الآخر في موضوعه والغاية التي يمثلها، تنوَّعت تلك الغايات فشملت الإنسان وعديد القيم كالكفاح والتضحية وحب الوطن، ومشاعر سلبية كاليأس وقتل الأحلام، وبعضها قد ناقش معضلات أخلاقية مستعصية كالخيانة على سبيل المثال لا الحصر، فهل تُفضَّل العلاقات الأسرية على الأرض؟ أم أن الوطن فوق الجميع؟ وهكذا يستمر الطرح والجواب في سياق أدبي قائم على الرمز دون الإكثار من المترادفات والإغراق في البيان والفلسفة، وهذا جُل ما يميز أسلوب غسان كنفاني.
ربما يظن البعض أن التلخيص قد يبخس جودة المنتوج الأدبي المعتمد أساسًا على إبداع الكاتب نفسه ومفرداته وتعابيره المنتقاة، بما لا يدع مجالًا لإنكار هذا الجانب، لكننا ننوِّه أن الملخص بحد ذاته وسيلة أدبية أيضًا وله جماله وغرضه، بما لا ينتقص من قدره ولا من قدر العمل الأساسي، بل هو أشبه بوسيلة عرض أعيدت هيكلتها لتنجزك وقتًا وتزيدك علمًا.
مؤلف كتاب القميص المسروق
غسان كنفاني أديب المقاومة، صاحب القلم الصارخ والكلمات المنتفضة في وجه الاحتلال الغاشم، وُلِد الصحفي والكاتب فلسطيني الهوية في عام 1936م، ملتحقًا فيما بعد بجامعة دمشق لدراسة الأدب العربي، ليصبح من أشهر أدباء العرب وأحد أبرز الناشطين السياسيين في العصر الحديث، له من المؤلفات ثمانية عشر كتابًا بين الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والدراسات، والمئات من المقالات السياسية والثقافية، منها المجموع بعد موته ومنها ما اتخذ سبيله إلى العالمية، فترجم إلى لغات بلغت العشرين، ومنها ما صيغ في قالب مسرحي أو إذاعي عُرِض على صعيد الدول العربية والأجنبية، وانضم بعضها إلى صفوف المنهاج الدراسي في المدارس والجامعات، ومن أشهر تلك الروايات: “عائد إلى حيفا”، و”أرض البرتقال الحزين”، و”رجال في الشمس”.
لم يُسلَّح غسان بالشكل المعتاد العاكس للدموية، لكن وقْع ما خطَّ كان وما زال محركًا فعالًا للنفوس الثكلى والعقول الحية، وبات بمنتوجه الأدبي يمثل تهديدًا على المحتل الهش، فاغتيل إثر ذلك في بيروت عام 1972م.