فقدُنا الصدق
فقدُنا الصدق
لقد فُرِّغ الإنسان من الفعل، وأصبح الناس يُعبِّرون عن غضبهم أو رفضهم بشكل يُشبه حالة إحماء ثوري، يتم تفريغ تلك المشاعر في لايكات وتعليقات ساخطة، فبدلًا من أن نخوض المعارك ذاتها؛ نخوض بدائل المعارك أو أشباهها، وذلك لأن الفضاء الافتراضي لا يمكنه استيعاب المشاعر البشرية؛ إنها تخلق حالة من الانفصال بين واقع الإنسان وبين ما يحمله من مشاعر وأفكار.
وهذه هي طبيعة الأفعال في العالم الافتراضي؛ إنها أفعال “بلا غاية”، إنها أفعال لا تُشكِّل “الخبرة” مع تراكمها الزمني، بل مجرد أفعال انتقائية نلتقط منها ما يكون “جديدًا” لا ما يُشكِّل “هويتنا”، أفعال لمجرد الكلام، وهذا سبب إدمان الناس للكلام، فلم يعد الكلام خاصية من خصائص الإنسان، بل أصبحت “الثرثرة” وظيفة في حد ذاتها تحتاج إلى مُنتج موضوع للاستهلاك، لقد صار الناس يُخصِّصون وقتًا للكلام لمجرد الكلام.
لقد تغيَّرت أنماط حياتنا تغييرًا جذريًّا بسبب الإنترنت وطبيعة العصر الرقمي، فتراجع اعتمادنا على الوسائط التقليدية، كما أن حدودنا أصبحت واسعة جدًّا، وأصبحنا نعيش تجارب لم يعِشها أحد من قبلنا، وبخطوات قليلة نحو المستقبل سيصبح الذكاء الاصطناعي سببًا في استغنائنا عن الكثير من الأشياء.
فإننا حين نتأمَّل أحوالنا قبل ظهور المحمول فإننا نحمل القلم لنكتب، والساعة اليدوية لنعرف الوقت، ونحفظ أرقام أصدقائنا عن ظهر قلب، وحينما نريد رؤيتهم نزورهم في بيوتهم “بلحمهم وعظمهم”، نقرأ كتابًا، نتأمَّل السماء، نقول كلمة “أحبك” وجهًا لوجه والأيدي في الأيدي، فما الذي حدث لنا إذًا بعد ظهور الإنترنت؟
الفكرة من كتاب أنا أوسيلفي إذن أنا موجود: تحوُّلات الأنا في العصر الافتراضي
يرفع هاتفه أمام وجهه.. يمد ذراعه.. يبتسم ويلتقط الصورة لنفسه، قد يبدو مشهدًا معروفًا ومفهومًا جدًّا في عصرنا الحديث، لكن دعنا نتوقَّف قليلًا ونتساءل: هل يبدو هذا التصرُّف طبيعيًّا؟ وهل الإنسانية الممتدة من خلال هذا المشهد ستكون طبيعية؟ وهل بالفعل سهَّلت مواقع التواصل الاجتماعي عملية التواصل بين البشر وجعلتهم أكثر قُربًا؟
قد يعتقد كثيرون أنه بالفعل قد أضافت مواقع التواصل الكثير من الفرص إلى الإنسان الحديث، لكن هناك جانبًا مُظلمًا، بل شديد الظلامية في هذه المواقع، إنها تخلق أشكالًا جديدة من الوهم والتضليل والتيه، إذ إن الصور التي تُلتقَط وتنتشر ما هي إلا محاكاة للكثير من التصوُّرات النفسية المشوَّهة التي تحتاج إلى تحليل وتفصيل.
قدَّمت لنا الكاتبة حقيقة الأزمة التي أحدثتها الثورة الرقمية في أنماط رؤيتنا للعالم ولأنفسنا، لنُدرك كيف أن الإنسان الحديث يعيش في سجن وهمي قد بناه بيده، بل وتحذِّرنا مما هو آت!
مؤلف كتاب أنا أوسيلفي إذن أنا موجود: تحوُّلات الأنا في العصر الافتراضي
إلزا غودار: أستاذة الفلسفة ومحلِّلة نفسانية وكاتبة فرنسية من مواليد 1978م، تعمل باحثة جامعية في جامعة باريس كريتاي، كما أنها مديرة أبحاث التحليل النفسي في جامعة باريس، حاملة لدكتوراه في الفلسفة، وعلم النفس، وعلم النفس التحليلي، وهي عضو الاتحاد الأوروبي للتحليل النفسي.
من مؤلفاتها:
Freud à la plage: La psychanalyse dans un transat (A la plag)
Ethique de la sincérité: Survivre à l’ère du mensonge (Hors Collection)
معلومات عن المترجم:
سعيد بنكراد: مفكر وباحث وأستاذ السيميائيات بكلية الآداب جامعة محمد الخامس أكدال بالرباط بالمغرب، وهو المدير المسؤول لمجلة “علامات”، وهي مجلة متخصِّصة في الدراسات السيميائية، وله عدد من الأعمال منها: “وهَج المعاني: سيميائيات الأنساق الثقافية”، و”بيرنار كاتولا: الإشهار والمجتمع”.