غُبار
في نظرةٍ عميقة إلى الحياة، والنفس، والمال، ذكر لمحاتٍ متفرقة في ذاتها، لكنّها ترابطت في تكوين نفسه وقناعاته، فكان هُو -بقدرٍ من الله- تارِكًا العنان للقارئ حتى يرى الأثر المتباين في نفسه من هذه القصة وذلك الفِعل دون تعقيب منه، ابتداءً برحلتهِ مع الكسب والمال، فلا يُحبُّ مُزاحمة المعلمين يوم القبض الرسميّ، وإنما ينتظر عّدة أيامٍ ثابتةً بعد بداية كل شهر، وكانت له نظرةٌ في أحوال الناس مع المال والتجارة، فذكر عن صِحة كلام الجدّات عن فقدان السلع الغذائية مذاقها وما كانت عليه في الماضي، ولا يتوقف هذا على السلع الغذائية فقط، وإنما على كل ما هو داخلٌ في التجارة، وذلك حاصلٌ لسعي الناس للربح الماديّ، بلا إتقانٍ ولا نُصحٍ للناس، ودافع الناس للغش في أغلب الأحيان هو حب الغنى، وخوف الفقر، لكنّ الفقر والغنى أمران نسبيّان، فأغلُب الناس يفسرون الفقر على وجهِ قلّة المال، وإنما هو نُقصانٌ في العقل لا في الجيب، أما عن فلسفته في الحياة، فقد كانت للدكتور عمر نظرة في التعامل مع العنف، فحين كان بالمدرسة الثانوية اعترض بعُنفٍ على دراسة التوراة، فعُوقب على ذلك؛ فكان يرى أن التوسل إلى الغاية باللين هو أصح الطُرق، لأن العنف يولِّد المقاومة، والمقاومة المتبادلة مضيعةٌ للوقت حسب رأيه، وكان يرى أن على الإنسان أن يتذكّر دائمًا أن كلّ شيءٍ محسوبٌ عليه، وأن معرفته لها ضريبة التنفيذ، وأن الحياةَ جِدّ واجتهاد، كما أن للخيال أثرًا في عالم الفرد والمجتمع، فصنع أصحاب الخيالِ السليم آثارًا نافعة للبشريّة، وفشل أصحاب الخيال السقيم في ذلك، أمّا عن السياسة فقد أقل من الحديث فيها لقناعته أن هناك صنفان من الناس لا يتكلمون فيها: إمّا عالمٌ بكل ما فيها، وإما جاهلٌ بكُل ما فِيها.
الفكرة من كتاب غبار السنين
هذا الكِتاب عرضٌ لغبار خطوات المؤلّف في حياتِه، تارِكًا فيه عنان التقييم للقارئ، غيرَ محتكرٍ لمعنىً أو أثر، وأغلب هذه الخطوات من الحياة الاجتماعيّة للمؤلف، ومن أسفارِه، وعملِه، ونشأته، والكتاب مكون من مقالات متفرقة نُشرت في جريدة السفير، وآثر فيها الكاتب أن تكون نابعةً منه دون أي تأثير خارجيّ؛ فرفض الحصول على أجرٍ ماديّ مقابل هذه المقالات، حتى لا يتأثر -مجبرًا- بسياسة الجريدة الداخليّة، مرّت فيها حياته بالكثير من المراحل والعناوين الرئيسة، وقد تعامل الدكتور عمر بجديّة -على عكس السائد- في كتابة مقالاته بشكلٍ عام، وذلك لسببين: أولهما أن له كُتبًا مكونة من مقالاتٍ مجمّعة، ككتابنا هذا، والثاني أن بعض كتبه كان تمهيدها مقالًا مكتوبًا في إحدى الجرائد، لذا فقد اعتنى عنايةً كبيرة بهذه المقالات.
مؤلف كتاب غبار السنين
عمر عبد الله فرّوخ: لُبنانيّ وُلِد في بيروت عام 1904م، تخرّج في الجامعة الأمريكيّة في بيروت، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعتي برلين ارلنجن بألمانيا، نشأ في أسرة مسلمة متديّنة، واهتم كثيرًا باللغة العربية، ودعى لأن تكون اللغة الأساسية المستخدمة في الصحافة، وأتقن مع العربية الإنجليزيّة والألمانيّة والفرنسيّة، عمِل في التدريس، وتوفّي عام 1987م عن عمرٍ يناهز ثلاثًا وثمانين عامًا، ورحلة زاخرة بالمؤلفات والتحقيقات والتراجم، منها تاريخ الأدب العربي، وتاريخ الإسلام المصوّر في التأليف، والسيرة النبويّة لابن عفّان، وتاريخ ابن شهاب في التحقيق.