عُملة أخرى
عُملة أخرى
سعيد الحمضوني المقاتل في ثورة 1936، رجل من أبناء قرية سلمة مميزي الملامح بوجهه المستطيل وحاجبيه المعقودَين، قليل الكلام إذا ما تحدَّث، لا يذكر الماضي ولا يسرد الحكايات، ينحصر حديثه عن المستقبل وما سيكون عليه، فلفَّه الغموض، واختلفت حوله الروايات، غاب فترة ثم عاد من يافا حاملًا معه رشاشًا ضخمًا قال لسكان قريته إنه نتاج ما جمعوا من تبرُّعات قد طلبها منهم، ورغم تيقُّن السكان استحالة شراء مثل هذا السلاح بهذا المبلغ، فقد فضلوا الاحتفاء بوجود السلاح عوضًا عن التحقيق في كيفية شرائه، ربما لم يسلم ذلك من نبش النساء ونسجهم للقصص، لكن المهم أن المدفع صار يمدُّ أهله بالقوة ويترك في نفوسهم إحساس الأمان، وارتبط في نفوسهم وأذهانهم أنه الأمل، كيف لا وهم أحوج ما يكونون إلى أي قوة تدفع عنهم هجمات الاحتلال الغشيمة في عام النكبة؛ وظلوا بهذا الحال زمنًا حتى بدت على سعيد ملامح التعب والشحوب، وزاد مع هذا الملمح صمته وانعزاله، فلا تجده إلا جنوبًا يركِّز مدفعه متصديًا لأي هجوم محتمل، إلى أن جاء خبر تفكُّك ماسورة المدفع تزامنًا مع هجوم عجزت أمامه البنادق، فلم يملك الحمضوني إلا تثبيتها بكفيه مؤثرًا الدفاع عن قريته على نفسه، فانهالت الطلقات من المدفع وعلا صوته وتدامت يداه من الحرارة، وكانت تلك لحظة اعترافه لأحد رجاله المعاونين له وتسليم وصيَّته، أما ثمن المدفع فكان حصاد بيعه دمه لمشفى السل في أبوكبير، وعلى ابنيه لأنهم من نفس دمه المقبول إكمال ما بدأه لتسديد القليل المتبقي من قسطه للتاجر الفلاني، وبتزايد الطلقات أحسَّ سعيد الحمضوني بأشياءَ كثيرةٍ تخترق جسده لتنزع ما تبقى من دم في عروقه.
كان موت سعيد بطيئًا قاسيًا، استغرق نزفه مرتين، مرة حين باع دمه والثانية حين مات بالسلاح الذي اشتراه بهذا الدم، كان عليه أن يموت رغم تمسُّكه بالحياة ورغم نبل هدفه، فمآله كمآل كل إنسان، الفارق أنه “اختار قدره الذي يريد”؛ وكانت تلك القصة بعنوان: “المدفع”.
الفكرة من كتاب القميص المسروق
“القميص المسروق” قصة قصيرة يُعنون بها الكتاب ولم يقتصر عليها، فجاءت معها سبع قصص أخرى مما دوَّنه المؤلف خلال حياته، ثم جُمِعت في كتاب واحد بعد موته، وهذه الحكايات مجتمعة تخدم قضية واحدة وهي القضية الفلسطينية والقومية العربية، ولو نظرت إليها فرادى لوجدت كلَّ نص يقوم على سطر مفجع، يختلف عن الآخر في موضوعه والغاية التي يمثلها، تنوَّعت تلك الغايات فشملت الإنسان وعديد القيم كالكفاح والتضحية وحب الوطن، ومشاعر سلبية كاليأس وقتل الأحلام، وبعضها قد ناقش معضلات أخلاقية مستعصية كالخيانة على سبيل المثال لا الحصر، فهل تُفضَّل العلاقات الأسرية على الأرض؟ أم أن الوطن فوق الجميع؟ وهكذا يستمر الطرح والجواب في سياق أدبي قائم على الرمز دون الإكثار من المترادفات والإغراق في البيان والفلسفة، وهذا جُل ما يميز أسلوب غسان كنفاني.
ربما يظن البعض أن التلخيص قد يبخس جودة المنتوج الأدبي المعتمد أساسًا على إبداع الكاتب نفسه ومفرداته وتعابيره المنتقاة، بما لا يدع مجالًا لإنكار هذا الجانب، لكننا ننوِّه أن الملخص بحد ذاته وسيلة أدبية أيضًا وله جماله وغرضه، بما لا ينتقص من قدره ولا من قدر العمل الأساسي، بل هو أشبه بوسيلة عرض أعيدت هيكلتها لتنجزك وقتًا وتزيدك علمًا.
مؤلف كتاب القميص المسروق
غسان كنفاني أديب المقاومة، صاحب القلم الصارخ والكلمات المنتفضة في وجه الاحتلال الغاشم، وُلِد الصحفي والكاتب فلسطيني الهوية في عام 1936م، ملتحقًا فيما بعد بجامعة دمشق لدراسة الأدب العربي، ليصبح من أشهر أدباء العرب وأحد أبرز الناشطين السياسيين في العصر الحديث، له من المؤلفات ثمانية عشر كتابًا بين الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والدراسات، والمئات من المقالات السياسية والثقافية، منها المجموع بعد موته ومنها ما اتخذ سبيله إلى العالمية، فترجم إلى لغات بلغت العشرين، ومنها ما صيغ في قالب مسرحي أو إذاعي عُرِض على صعيد الدول العربية والأجنبية، وانضم بعضها إلى صفوف المنهاج الدراسي في المدارس والجامعات، ومن أشهر تلك الروايات: “عائد إلى حيفا”، و”أرض البرتقال الحزين”، و”رجال في الشمس”.
لم يُسلَّح غسان بالشكل المعتاد العاكس للدموية، لكن وقْع ما خطَّ كان وما زال محركًا فعالًا للنفوس الثكلى والعقول الحية، وبات بمنتوجه الأدبي يمثل تهديدًا على المحتل الهش، فاغتيل إثر ذلك في بيروت عام 1972م.