عواقب البيروقراطية
عواقب البيروقراطية
إن التقسيم والتوزيع للعمل الذي تتميز به البيروقراطية يؤدي إلى وجود قلة قليلة من الأشخاص داخل المؤسسة أو المنشأة يتمتَّعون بنظرة شمولية يدركون من خلالها طرق وأساليب سير عمل كل دائرة من دوائرها، وغياب تلك النظرة الشمولية، كما ترى بياتريس، نتاج تضاعف عبء العمل الذي يتغذى بصورة خاصة على البيروقراطية، فالأشخاص الذين يتوجَّب عليهم معرفة أساليب احتساب النتائج لا يملكون الوقت الكافي للانخراط في هذه التفاصيل والقيام بجمع هذه المعلومات، وفي ظل هذه الظروف يعدُّ احترام المعايير والقواعد والإجراءات وأساليب العمل عبر التحقق من الخانات المتطابقة مع المعايير المحددة مسبقًا الوسيلة الأفضل، وغالبًا الوحيدة للاستمرار في العمل، لك أن تسأل نفسك أيها القارئ كم مرة، على سبيل المثال، قام مدير إحدى المؤسسات، عامة كانت أو خاصة، بمقابلة الناس الذين يترددون على المؤسسة، وكم من الوقت أمضى في الحديث معهم؟
إن هذا التقعيد والتقيُّد بالمعايير والإجراءات وجعل الأشياء والسلوكيات رسمية، تجعل الأفراد داخل المؤسسة يرون أنه لا ضرورة للنظر دومًا إلى الوراء وإلى معرفة ما تنطوي عليه تلك الأشياء والسلوكيات للتصرُّف وممارسة الحكم، فتمَّ بذلك جعل التجريد والتقعيد عنصرًا مركزيًّا في التحليل المنطقي، وهذا التجريد يؤدي إلى إغلاق الفكر، إذ إن تراكم الإجراءات والمعايير والقواعد تؤدي إلى هدر الكثير من الوقت والجهد، ما يعني -حسب بياترس- ألا يجد أفراد المؤسسة وقتًا وطاقة للنقاش حول المهنة للتوصُّل إلى ما هو أبعد من الإجراءات والمعايير المجردة، وبالتالي تنتج بعض الآثار السلبية وبخاصةٍ فيما يتعلق بالحيلولة دون الفكر النقدي والإبداع والابتكار.
كما أنه لا ينبغي أن يعتقد أن الموظف باتباعه للإجراءات والقواعد والمعايير يتحمل مسؤولية داخل المؤسسة، بل على العكس، إذ إن هذا التضخم البيروقراطي باتباع الإجراءات والقواعد، وملء الخانات، والتحقق من سائر المعايير المطلوبة يؤدي إلى تخفيف المسؤوليات كنوع من نبذ المسؤولية وتفادي الإدانة والمساءلة عند حلول المشاكل، فيكون احترام القواعد أهم من اتخاذ القرار.
الفكرة من كتاب التحكُّم البيروقراطي
ترزح المجتمعات الحديثة اليوم تحت كم كبير من الإجراءات والمعايير البيروقراطية في جميع المجالات من الأعمال التجارية والمهنية إلى الحياة اليومية وعلاج مشكلات كالبطالة والفقر، حيث يجد الإنسان نفسه خلال حياته اليومية مصطدمًا بالعديد من الإجراءات والتعليمات التي تهدر الكثير من الوقت والطاقة؛ فإذا أقدم منقذ سباحة على إنقاذ أحد الأشخاص من الغرق خارج منطقة رقابته، فإن ذلك قد يعرِّضه لعقوبة مالية -الخصم من مرتبه- أو عقوبة الفصل من العمل والسبب عدم اتباع المعايير والقواعد وفق المنطق البيروقراطي النيوليبرالي!
مؤلف كتاب التحكُّم البيروقراطي
بياترس هيبو Beatrice Hebou: أستاذة في العلوم السياسية، ومديرة أبحاث في المركز الوطني للبحوث في فرنسا، لها مؤلفات عديدة، منها: “التشريح السياسي للسيطرة”، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا.