عرق وحشي.. الأمة الجديدة
عرق وحشي.. الأمة الجديدة
إن الحدث الاستعماري مُحفز للاضطرابات النفسية، فمن حيث كونه نفيًا مُستمرًّا للوجود الإنساني في الأرض المستعمَرة، يجعل المستعمَر في بحث دائم عن ذاته، ومنذ أول لحظة للمحتل، يبدأ في إخضاع كل شيء، فلا يكتفي باستلاب الجسد فقط، ولكنه يركز أكثر على العقل، فقد وُجدت في الجزائر مراكز تعذيب مُتخصصة بما يسمى غسيل الدماغ، هناك صنف الفرنسيون الجزائريين إلى فئتين يخضعونهما لهذا التعذيب؛ المثقفون والعامة، في حالة المثقفين يُطلب من الفرد تمثيل دور متعاون مع الاستعمار، في محاولة لتحييد النزعة القومية، أما بالنسبة إلى العامة، فيكون الأمر أكثر وحشية؛ تعذيب جسدي كامل، يهدف إلى ترويض هذا الإنسان، إن هذا الرجل عندما يخرج من السجن، سيبادل من يلقون عليه التحية بـ”عاشت فرنسا”.
القتال ضد المحتل هو نضال في سبيل الحقيقة، هو السبيل الوحيدة لمحو الأكاذيب التي تستهدف إنسانية هؤلاء البشر، حينها، يكون الكسل الذي يُوصف به المستعمَر، فعلًا مقصودًا لتخريب آلة المحتل، إنه لا يقوم إلا بما يُرغم عليه، هو يرفض التعاون، إن المحتل يرغب في أن يستبيح أرض الرجل، وينتظر منه التحلي بالشرف والصدق، لكن هذا الرجل لن يتوانى عن أي فعل يرده إلى إنسانيته.
ثم رأينا علماء الاستعمار الفرنسي، يُسندون إلى الجزائريين الميل الفطري إلى الإجرام، إنهم ليسوا كسالى فقط، ولكنهم مجرمون، وكذابون، ويبدو أنها سمة الشمال الإفريقي، إنهم مندفعون منذ ولادتهم، وقد عكف علماء وباحثون يُعللون آراء المستوطنين والجنود هذه، وكان تفسيرهم بتخلف النشاط الدماغي عند سكان شمال إفريقيا، بل توسعت هذه الدراسات لاحقًا لتشمل جميع سكان القارة، الآن يصبح الإفريقي في أفضل حالاته، أوروبيًّا ذا عقل غير مكتمل النمو.
إن هذه الضلالات لا يمكن دحضها إلا بالكفاح، بل حتى العنف الطائفي لا يمحوه سوى انخراط الأمة المستعمَرة في عنف جماعي مُوجه ضد المحتل، في زمن الاستعمار، في وسع الرجل أن يقتل إخوته في سبيل كسرة خبز، ذلك لأن كل المعاني الكبرى تستحيل أمامه إلى أشياء بلا قيمة، إن الحياة في المستعمرات هي حرب من أجل الطعام، ما يلبث أُفق المستعمَر يضيق حتى يقتصر على معدته، لكن ما إن تبدأ حرب التحرير حتى يتعلق أمله بشيء آخر، يتذكر الوطن، والعائلة، إنه مستعد الآن لبذل آخر قوته لجماعة عابرة من المقاتلين، إن المستعمَر يتنحى جانبًا الآن، ويبزغ إنسان جديد، مع الأمة التي بدأت المسير.
الفكرة من كتاب معذبو الأرض
كان المحتلون في البداية يملكون الكلمة؛ يهتفون ويردد المستعمَرون وراءهم، تقودهم النخبة المُصطفاة من المستعمِر، كان ذلك عصر الإخضاع؛ عصرًا أوروبيًّا بامتياز، وإذا بتلك الأسنان البيضاء الناصعة تتحرك من تلقاء نفسها، تتكلم، وتُحاجج الأوروبي بقيمه التي فرضها، وكان ذلك عصر التجاهل، ثم تعالت تلك النبرة، واستحالت إلى صراخ، وتشنجت العضلات في البداية، بدأ العبيد يتحسسون أجسادهم، إنهم بشر أيضًا، وها هو عصر الغضب.
يتحدث فانون -المؤلف- كثيرًا عن الأوروبيين، ولكنه يتوجه بحديثه إلى قومه في العالم الثالث حصرًا، إنه لا يهتم بالمجازر ولا يستنكر ما فعلته أوروبا، إنه فقط يستخدمها، يشرح لإخوته: “إذا كانت وسيلة المستعمِر هي القوة، فليس أمامنا سوى العبودية أو السيادة”.
مؤلف كتاب معذبو الأرض
فرانز عمر فانون: طبيب نفسي وفيلسوف اجتماعي، وُلد عام 1925م في جزر المارتينيك، التحق بالمدرسة الطبية في ليون، عمل طبيبًا عسكريًّا في الجزائر في أثناء الاستعمار الفرنسي، انضم وقتها إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية بشكل سري، ليستقيل من عمله مُعلنًا انضمامه للجبهة، تُوفي عام 1961م مُتأثرًا بسرطان الدم، ودُفن في مقبرة مقاتلي الحرية بالجزائر كما أوصى، أعماله الأخرى:
بشرة سمراء وأقنعة بيضاء.
استعمار يحتضر.
معلومات عن المترجم:
سامي الدروبي: سياسي وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي سوري، كان عميدًا لكلية التربية في جامعة دمشق، عُين وزيرًا للمعارف، اشتهر بترجمته لأعمال كتاب روسيا الكبار، مثل دوستويفسكي وتولستوي وغيرهما.
جمال الأتاسي: كاتب ومترجم وسياسي سوري، حصل على الدكتوراه في الطب النفسي من فرنسا، وكان من مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي، عُين وزيرًا للإعلام في وزارة صلاح البيطار.