عبادة الجسد
عبادة الجسد
يعد الاهتمام والرعاية التي يلقاها الجسد تتويجًا حقيقيًّا لثقافة “عبادة الجسد”، فقد أضحى الجسد محلًّا للاستثمار الذي يتجلَّى في آلاف الممارسات اليومية، واختفى التمييز بين الجسد والذات، وصارا واحدًا، فالجسد هو أنت، وأنت هو الجسد، ولم يعد الجسد في زمن ما بعد الحداثة مجرد آلة، بل هو تعبير عن هويتنا وكينونتنا، لذا فليس هناك من سبب للخجل منه، ما أوجب استعراضه عاريًا في كل مكان وكل مناسبة، إذ لا بدَّ من احترامه وتوقيره، ومن ثمَّ السهر على حفظه ورعايته، والحيلولة دون تهالكه، ومحاربة علامات تدهوره، من خلال إعادة تدوير دائمة ومستمرة عبر جراحات التجميل، وممارسة الرياضة، والحمية.
كما اختفت ثنائية الجسد والروح، وأصبح إضفاء طابع الشخصنة على الجسد ونفسنته تستدعي ضرورة الشباب والصراع مع الزمن -كما يرى ليبوفتسكي- أن بقاء الإنسان شابًّا وعدم تقدُّمه في السن، ألجأته إلى التعبير الجسدي، واليوغا، واليوتونيا، والعلاج الجشطالتي، وغيرها من الرياضات الشرقية، فعملية شخصنة الجسد رسَّخت الشعور الدائم بالقلق الناتج عن الخشية من التقدُّم في العمر وظهور التجاعيد، ما دفع الإنسان إلى الهوس بالصحة والجمال من خلال الإفراط في استهلاك العلاجات الطبية، والتردُّد على عيادات التجميل، فقد صار التقدم في العمر والهِرَم سُبَّة، وأضحى وعي الجسد بالجسد غاية النرجسية التي يتمتع بها الإنسان ما بعد الحداثي، مما أدى إلى نشوء ثورة جنسية!
حيث يتم تشجيع الجنس البارد والعلاقات الحرة والمنحرفة، والحث على تقليل الفروق الجوهرية بين الرجل والمرأة، فلم يعد مفهوما الرجل والمرأة من الوضوح كما في الماضي، ولم تعد الممارسات المنحرفة كالمثلية الجنسية تلقى أي اعتراض، فالممارسات الجنسية بكل أشكالها وانحرافاتها أصبحت مقبولة وغير مستهجنة، وارتخت جميع المرجعيات الاجتماعية والدينية وتمَّت شرعنة جميع أنماط الحياة في الوقت الذي يتم فيه إدانة التنميط والغيرة والتملك، يُراد من وراء ذلك إفراغ الجنس من أي توتر عاطفي يعكر صفو اللامبالاة والتحرر، إذ يعمل كلٌّ من التحرر الجنسي، والحركات النسوية، وانتشار الإباحية على إبقاء التوترات العاطفية بعيدة، وبناء الحواجز ضدها، ما يؤذن بموت “ثقافة العاطفة”، فيعيش الجميع في قبوٍ من اللامبالاة بعيدًا عن العواطف والأهواء الخاصة وأهواء الآخرين، فالإحساس والشعور أصبحا من الممنوعات!
الفكرة من كتاب عصر الفراغ
إن النزعة الاستهلاكية المتطرِّفة التي يتميَّز بها عصر ما بعد الحداثة، جعلت الإنسان يبحث عن السعادة والرفاهية في المشتريات، وطلبه الحصول على كل شيء في التوِّ واللحظة، مما أدَّى إلى إيغال هذا الإنسان في الفردانية، إلى جانب شخصنته لكل شيء، من شخصنة الجسد بإضفاء طابع القداسة والكرامة عليه، ومن ثمَّ أصبح التعري احترامًا وتوقيرًا له، ويصير الستر تنميطًا مستهجنًا لا بدَّ من محاربته، إلى شخصنة الدين بطلب دين على المقاس، وحسب الطلب، وصولًا إلى مرحلة الفراغ حيث يكمن الحل الوحيد في الانتحار!
مؤلف كتاب عصر الفراغ
جيل ليبوفتسكي Gilles Lipovetsky، فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، له عدد من الدراسات والبحوث في نقد الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والرأسمالية والنيوليبرالية، وتفكيك بنى المجتمعات الاستهلاكية.
له مؤلفات عديدة، منها: “مملكة الموضة”، و”المرأة الثالثة”، و”الترف الخالد”، و”الشاشة العالمية”، و”أفول الواجب”.