ظهور مطبعة جوتنبرج ومن بعدها سيطرة الحاسوب
ظهور مطبعة جوتنبرج ومن بعدها سيطرة الحاسوب
مع تطور تقنية الكتاب تغيرت التجربة الشخصية للكتابة والقراءة، وبدأت الحضارة تتخذ اتجاهًا يتناسب مع ممارسة القراءة الصامتة، وظلت الكتابة وسيلة للتدوين أكثر من كونها وسيلة للتأليف، لكن مع انتشار الكتب اتخذت الكتابة شكلًا جديدًا، إذ أصبحت تنشر شكلًا جديدًا من الفلسفة الفكرية، وهو فلسفة “الكتاب”، فأصبح كل فرد ينمّي معرفته ذاتيًّا، ويصنع توليفته الشخصية من الأفكار والمعلومات التي يجمعها عبر كتابات المفكرين الآخرين، ومن ثم أصبحت أصالة الفكر وإبداعية التعبير من السمات المميزة للعقل المثالي، وحُسم الخلاف بين الخطيب سقراط والكاتب أفلاطون لصالح الأخير.
في القرن الخامس عشر تمكن الألماني “جوهانز جوتنبرج” من صناعة “آلة الطابعة”، وتشير التقديرات إلى أن عدد الكتب التي أنتجت خلال الخمسين سنة التي تلت اختراع جوتنبرج يعادل عدد الكتب التي أنتجتها أوربا خلال الألف سنة التي سبقت هذا الاختراع، وقد أدى توافر الكتب إلى تزايد رغبة عامّة الناس في تعلم القراءة والكتابة، ولم تقتصر الطباعة على إنتاج الكتب فقط، بل شملت الصحف والمجلات العلمية، ورغم أن المطبعي قدَّم للقارئ عديدًا من الكتب القيمة النافعة، فإنه إلى جانب هذه العقول الراقية، ظهرت “العقول السطحية”، إذ تمتلئ المكتبات والأسواق بالروايات التافهة، والنظريات الزائفة، والصحافة الصفراء المبتذلة، هذا إلى جانب وباء الكتابات الإباحية!
وبعد أكثر من خمسة قرون من اختراع المطبعة، ظهرت كثير من التقنيات التي تقدم الترفيه بلا حدود كالمذياع والسينما والتلفاز، لكن هذه التقنيات ظلت محدودة، إذ عجزت عن نقل الكلمة المكتوبة، ومن ثم لم تستطع زحزحة الكتب عن مكانها أو تحل محلها، لكن مع اختراع الحاسوب تحول الاتجاه السائد بشكل سريع إلى مسار جديد، فقد أصبح الحاسوب المكتبي والمحمول رفيقنا الدائم، وأصبحت شبكة الإنترنت وسيلتنا المفضلة لتخزين ومعالجة ومشاركة المعلومات بأشكالها كافة، بما فيها المعلومة المكتوبة.
ومع انتشار شبكة الإنترنت على نطاق واسع حول العالم ازداد الوقت الذي نخصصه لها بشكل سريع، وقد رافق ذلك انخفاض قراءة المطبوعات كالصحف والمجلات والكتب، وبمجرد أن أصبحت المعلومة رقمية تلاشت الحدود بين وسائل الإعلام، فأصبحت شبكة الإنترنت جامعة لجميع الاستخدامات، ومع ذلك أرست شبكة الإنترنت نوعًا جديدًا من الاستهلاك، وهو استهلاك المعلومة القصيرة الجذابة الصغيرة، هذا إلى جانب أنها أصبحت تشوش تركيزنا، لأن صفحة إلكترونية واحدة يمكن أن تحتوي على بضعة أسطر من النصوص، وبث مرئي أو مسموع، وبعض الإعلانات، ومن ثم تعمل هذه الضوضاء كمحفزات مربكة للمستخدم وتشتت تركيزه.
الفكرة من كتاب السطحيون.. ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا
عندما تظهر أي وسيلة إعلام جديدة لنقل المعلومات، فإن الناس ينشغلون بالمحتوى الذي تنقله ويختلفون ويتناقشون حوله، فمثلًا يهتمون بالأخبار التي تنقلها الصحف، والبرامج التي ينقلها التلفاز، والكلمات التي ينقلها الطرف الآخر عبر الهاتف، فتتوارى التقنية ذاتها خلف المحتوى الذي تنقله، وجاءت شبكة الإنترنت لتكون آخر وسيلة تثير النقاش والخلاف، فالبعض يبشِّر بعصر ذهبي لإمكانية الوصول إلى المعلومة ومشاركتها، والبعض الآخر يشكك وينذر ببدء عصر من الظلام تخيم عليه الضحالة والنرجسية
وبين هذا وذاك يغيب عن الأذهان أن التقنية تُغيِّر أنماط الإدراك دون أي مقاومة من مستخدميها، لدرجة أننا لا نلاحظ ما يجري داخل رؤوسنا، وفي الوقت نفسه نظن أننا نُمسك بزمام الأمور لنُرضي كبرياءنا، مع أن الواقع يخبرنا أن شبكة الإنترنت أصبحت السيد والخادم في آنٍ واحد، ومن هذا المنطلق يأتي هذا الكتاب ليكشف لنا المخاطر المُحيطة بالإنسان في ظل الإنترنت والمجتمعات الرقمية التي سلبت الإنسان واقعه المادي الملموس، ودفعته دفعًا إلى عالم رقمي مليء بالأوهام والأمراض والاستلاب.
مؤلف كتاب السطحيون.. ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا
نيكولاس كار: هو كاتب أمريكي حاصل على الماجستير في الإنجليزية والأدب الأمريكي من جامعة هارفارد، له مقالات وكتب عديدة حول التقنية والأعمال والثقافة. من مؤلفاته:
The Glass Cage: How Our Computers Are Changing Us
The Big Switch: Rewiring the World, from Edison to Google
Utopia Is Creepy: And Other Provocations
معلومات عن المترجم:
وفاء م. يوسف: هي كاتبة ومترجمة قانونية بمركز ترجمة اللغة الإنجليزية بجامعة البحرين. من ترجماتها:
الثراء للأزواج الأذكياء.
السطحيون.