ظلمات الدهرانيين
ظلمات الدهرانيين
ظلمت الدهرانية الإنسان مرتين، مرة عندما فصلته عن الدين، ومرة أخرى عندما فصلته عن الأخلاق، فتكون بذلك قد أخلَّت بماهية الإنسان المستندة في الأساس على الأخلاق الدينية، ويرجع ظلمهم للدين إلى ثلاثة احتمالات، إما (أنهم غير راضين عن الدين المسيحي التاريخي في صورته الوقتية)، مستنكرين ما فيه من أشكال الخرافة، والتجسيد، والتعميد وعلى الرغم من ذلك فإن عدم رضاهم لا يعطيهم الحق في إقامة دين من عندهم لأن ذلك جهل بحقيقة الدين المنزل، كما أنه جهل بحقيقة الإنسان المؤمن، أو (أنهم غير راضين عن الدين بوجه عام) لنفورهم من الشعائر والمناسك الدينية، معتقدين أنها لا تجلب نفعًا ولا تدفع شرًّا، أو (أنهم يريدون إخراج الدين في صورة عقلية) تماشيًا مع روح الحداثة التي تؤلِّه العقل وتمجِّده، فاستخلصوا الأخلاق من الدين، وألبسوها لباسًا عقليًّا زاعمين أنهم جاؤوا بها من عند أنفسهم.
ثم عكفوا بعد ذلك على عزل الأخلاق ابتغاء إزالتها، وذلك بادعائهم أن الأخلاق واحدة لا تتعدَّد، وهذا باطل لاحتواء الفعل الخلقي الواحد على مراتب مختلفة، فالعطاء -مثلًا- فعل أخلاقي من مراتبه الكرم، والكرم فعل أخلاقي يتضمَّن -هو أيضًا- مراتب أخلاقية مختلفة، وهكذا دواليك؛ كما يظلمون الأخلاق بزعمهم أن العبادات والشعائر الدينية لا أخلاق فيها، وهذا باطل لأن العبادات والشعائر الدينية لا تخلو من أخلاق لأن تواصل الإنسان مع الخالق يجعله يسمو بأخلاقه، لعلمه اليقيني بنظر الإله إلى قلبه، شاهدًا على أفعاله وأعماله، فيكون حريصًا على حفظ تخلُّقه الداخلي حرصه على تخلقه الخارجي، فتخلق القلب يستتبع تخلُّق الجوارح، كما أن ظلمهم للأخلاق أخذ شكل فصلها عن الروح، فقد جعلوا الأخلاق متفرِّعة عن الذات لا الروح، وهذا باطل لأن الأخلاق مبثوثة في فطرة الإنسان أول خلقه بواسطة النفخة الإلهية، فلا مجال إلى القول إن الأخلاق دينية روحية.
الفكرة من كتاب بؤس الدهرانية.. النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين
قامت الحداثة منذ نشأتها على “فصل المتصل”، ونصطلح على أن نسميه (الدنيانية)، ومن صورها، (العَلمانية) وهدفها فصل السياسة عن الدين، و(العِلموية) وهدفها فصل العِلم عن الدين، و(الدهرانية) وهدفها فصل الأخلاق عن الدين، وكذا فصلت الدنيانية الفن والقانون وكل شيء عن الدين، وهدف هذا الفصل (الدنياني) صرف الدين عن تنظيم مجالات الحياة، وأبلغ تلك الفصول أثرًا وأشدها خطرًا هو (فصل الأخلاق عن الدين)، لتعلُّق الأخلاق بالإيمان، فضلًا عن صلة الإيمان بالدين.
وقد وضع الدهرانيون أربع صيغ للفصل بين الأخلاق والدين، يريدون من خلالها أن يجرِّدوا الأخلاق من لباسها الروحي، حتى يلبسوها لباسًا زمنيًّا دنيانيًّا بلا روح؛ فدعوى فصل الأخلاق عن الدين، دعوى باطلة، حيث تبطل تصوُّرات الدهرانيين عن الأخلاق والدين، حيث لا أخلاق بلا دين، كما لا روحانيات من خارج الدين، ومن ثمَّ لا بد من وصل ما فصله الدهرانيون، حتى نعيد إلى الأخلاق لبسها الروحي من جديد.
مؤلف كتاب بؤس الدهرانية.. النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين
طه عبد الرحمن: كاتب متخصِّص في علم المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق، أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين منذ سبعينيات القرن الماضي، كتب العديد من الكتب التي يؤسِّس من خلالها فلسفة إسلامية جديدة، ومن تلك الكتب: “العمل الديني وتجديد العقل”، و”روح الحداثة”، و”سؤال الأخلاق”، و”سؤال العنف”، و”ثغور المرابطة”، و”ما بعد الدهرانية”.