طباع فرنسية
طباع فرنسية
نتناول هنا طرفًا مما رصده صاحبنا من طبع وطباع أهل باريس على اختلاف أشكالهم وألوانهم، وأول ما نذكر فشأن العمال هناك، إذ اعتادوا أن يعيشوا حياتهم بعد العمل الشاق بشيء من الترفيه والترويح، فهذا العامل يجالس رفاقه وكلهم في ثياب رثة وتعب وإرهاق، لكنهم سرعان ما يخرجون من حالتهم تلك بالجلوس في الحدائق للطعام والسُّكر والمزاح، فلا يكون عندهم وقت للفكر والنظر، ولو أنهم فعلوا لشقوا، والعامل الباريسي لا يجد غضاضة في أن يسكن مع جماعة من الناس في غرفة واحدة لا كما عندنا في الشرق، وهو على ذلك يسخر من حياته ويلهو، بل قد يكون حظه من القراءة ما ليس للطلبة المصريين في باريس!
أما عموم الشعب الفرنسي فإنهم تربَّوا على البطولة وحب المجد، فإن غفا الشعب ولها ونام فإنه حتمًا من غفلته ينهض ويقوم ويقاوم بينما نحن -أهل الشرق- لا نعرف من حب المخاطرة والتضحية في سبيل المجد شيئًا، “فقليل من الشرقيين من يقول: “المجد أو الموت”، ولو أنهم قالوها مرة واحدة لحسب لهم ألف حساب، فحب الحياة هو باب الموت وحب الموت هو باب الحياة، ولكن أكثر الناس لا يفقهون!” كما يذكر الكاتب.
ذات يوم قام زكي مبارك في باريس بنزهة في طيارة أخذت بلُبِّه إذ رأى فيها جمال المدن من أعلاها، لكن سرعان ما أفسد عليه فرحه ذاك تأمله فيما عند أهل فرنسا والغرب عمومًا من آلات وأدوات ومظاهر الحداثة، فهو يرى أن كل ذلك يصير في أيديهم وسائل تدمير وتخريب وسطو على الآخرين، إذ إنهم -كما يصفهم- “لئام تطغيهم القدرة، وتعميهم النعمة.. لا يوفون إن عاهدوا، ولا يصدقون إن وعدوا، ولا يبرون إن أقسموا، وإنهم لمغرمون بنقض العهود، وتمزيق المواثيق”، ولعلَّ القارئ يقول إن مطامعهم لا يمثلها إلا من يملك أمرهم من حكومات ورؤساء بينما هم “ملائكة أطهار”، لكن الواقع يشهد بغير ذلك، إذ إنهم نفعيون إلى حدٍّ بعيد ولا يمانعون من حدوث ذلك بحسب ما رآه زكي مبارك.
الفكرة من كتاب ذكريات باريس
رحل زكي مبارك إلى باريس في بعثة دراسية لخمس سنوات فكان يدوِّن يوميات منفصلة يمزج فيها الصورة بالوجدان، والفكر بما تبصره العينان؛ فنقل إلينا نبض باريس حيًّا من مدينة وسكان ومعالم وطباع ومشاهد ووقائع، كما نقل إلينا نبضه هو في تلك التجربة من أحاسيس ومشاعر وتعليقات ومقارنات.
إنها حبيبته، برغم كل ما فيها فهي حبيبته حتى قال عنها: “وستظل باريس قبلة روحي ما بقيت في النفس ذكرى ما لقيت عندهما من عطف ورعاية وحنان”، فما الذي جعل زكي مبارك يحب باريس كل ذلك الحب؟ وأي تجربة تلك التي بهرته رغم كل ما وُجِّه إليها من انتقادات؟ هذا هو ما تقوله لنا ذكرياته في باريس.
مؤلف كتاب ذكريات باريس
زكي مبارك: شاعر وناقد ومفكر وأديب مصري وُلد عام 1892 بمركز أشمون بالمنوفية، درس في الكتَّاب منذ طفولته وحصل على ثلاث درجات دكتوراه لاحقًا، وكان من أحد المشاركين في ثورة 1919م بأشعاره الحماسية، ثم عزف عن المشاركة السياسية لأسباب رآها وسافر إلى العراق فمُنح هناك “وسام الرافدين”، وتوفي عام 1952م تاركًا خلفه إرثًا أدبيًّا وفكريًّا مختلفًا ألوانه، ومنه:
“مدامع العشاق”.
“وحي بغداد”.
“ليلى المريضة في العراق”.
“النثر الفني في القرن الرابع”.
“الأسمار والأحاديث”.