صور من باريس
صور من باريس
لعلَّ الذين لم يُكتب لهم السفر إلى باريس يحسدون زكي مبارك وغيره بالإقامة هناك، وكون المقيم فيها قادرًا على “صيد” حبيبة، لكن الكاتب يذكر أن عكس ذلك هو الصحيح، إذ إن العلاقات العاطفية في القاهرة أكثر أمانًا من باريس، ففي القاهرة قد يأسر الرجل امرأة بتعلُّقه بها وهي ترضى منه بأقل القليل، بل وتعده كرمًا، أما في باريس فإن الفتاة غالبًا ما تكون لأسرة فقيرة، فهي تكدح في العمل طوال اليوم وترجع إلى بيت أبيها وأمها فما ترى شيئًا إلا الفقر، ولو خرجت من دارها فذهبت إلى السينما مثلًا فإنها تكون متشوِّقة إلى أي شيء يهز كيانها وعاطفتها فتضطرب مشاعرها بل ترقص طربًا لنظرة من شاب طالب، وتتوالى الأيام وتزيد بينهما العلاقة إلى حد الوعد بالزواج، لكنه يتركها تواجه الحياة بعد ما كان بينهما ما كان، وذلك لأن أسرته فاحشة الثراء لن ترضى بالطبع أن يتزوج من فتاة فقيرة؛ فتبدأ الفتاة في الانتقام من كل الشباب والطلاب الذين تبدو عليهم مظاهر الرفاه والثراء حتى ولو لم يكن لهم يد فيما حدث، لكنها تراهم جميعًا واحدًا وأنهم صورة لشخص واحد؛ فتحقد عليهم وتنتقم منهم فتسطو على أموال هذا وتقتل ذاك.
صورة أخرى عايشها زكي مبارك على ضفاف نهر السين، إذ ألقى أحد الشباب بنفسه في النهر فتجمَّع الناس وجاءت الشرطة وفرق الإنقاذ لإخراجه بعد أن غيَّبته زرقة المياه، بينما ظل صاحبنا يفكر فيما دفع ذلك الشاب إلى الانتحار؟ وكيف كان شعوره بالحياة والموت؟ إلى آخر تلك الخواطر، أما الناس فما شغلهم من أمر الشاب إلا أن يكون حيًّا فيُنقَذ، ولم يشغلهم سوى ذلك، بل تبادلوا الأحاديث والقهقهات بينما رجال الإنقاذ قد وجدوا الشاب وحاول الطبيب إنعاشه، ولكن الساعات مرت دون جدوى فأحضروا له النعش وذهبوا به إلى المستشفى ولم يكن ينتظره أحد من الأقارب والمعارف، والسر أن ذلك الشاب هو واحد من العمال الفقراء الذين تستقدمهم باريس وتغريهم -كغيرهم من أهلها- بالثراء ورغد العيش فما يجدون إلا السخرية من أحوال أنفسهم والتسخُّط لمعيشتهم في أجواء خلت من حضور الدين والعقيدة ومفاهيم الرضا.
الفكرة من كتاب ذكريات باريس
رحل زكي مبارك إلى باريس في بعثة دراسية لخمس سنوات فكان يدوِّن يوميات منفصلة يمزج فيها الصورة بالوجدان، والفكر بما تبصره العينان؛ فنقل إلينا نبض باريس حيًّا من مدينة وسكان ومعالم وطباع ومشاهد ووقائع، كما نقل إلينا نبضه هو في تلك التجربة من أحاسيس ومشاعر وتعليقات ومقارنات.
إنها حبيبته، برغم كل ما فيها فهي حبيبته حتى قال عنها: “وستظل باريس قبلة روحي ما بقيت في النفس ذكرى ما لقيت عندهما من عطف ورعاية وحنان”، فما الذي جعل زكي مبارك يحب باريس كل ذلك الحب؟ وأي تجربة تلك التي بهرته رغم كل ما وُجِّه إليها من انتقادات؟ هذا هو ما تقوله لنا ذكرياته في باريس.
مؤلف كتاب ذكريات باريس
زكي مبارك: شاعر وناقد ومفكر وأديب مصري وُلد عام 1892 بمركز أشمون بالمنوفية، درس في الكتَّاب منذ طفولته وحصل على ثلاث درجات دكتوراه لاحقًا، وكان من أحد المشاركين في ثورة 1919م بأشعاره الحماسية، ثم عزف عن المشاركة السياسية لأسباب رآها وسافر إلى العراق فمُنح هناك “وسام الرافدين”، وتوفي عام 1952م تاركًا خلفه إرثًا أدبيًّا وفكريًّا مختلفًا ألوانه، ومنه:
“مدامع العشاق”.
“وحي بغداد”.
“ليلى المريضة في العراق”.
“النثر الفني في القرن الرابع”.
“الأسمار والأحاديث”.