صفاتٌ تقدحُ في الصديق
صفاتٌ تقدحُ في الصديق
قد ذكرنا أن الصديق قد يعتريه نقص في بعض الصفات، ولكن ليس جميع العيوب في الصديق مما يستحق الصبر عليها، فهناك بعض العيوب تقدح في الإنسان وتجعله ليس أهلًا للصداقة، لكونها منافية لشرف مكانة الصداقة.
أولى تلك الصفات هي النميمة.
كما قيل:
ومن نمَّ في الناس لا تُؤمَن عواقبه * على الصديق ولم تُؤمَن أفاعيهِ.
فالويلُ للعهدِ منه، كيف يُنقِضُهُ * والويلُ للودِ منه كيف يُفنيه.
وكذلك أيضًا يقدح في الصديق أن يتصف بالغيبة.
كما قيل:
وذي حسدٍ يغتابُني حين لا يرى * مكاني، ويثني صالحًا حين أسمع.
تورَّعتُ أن أغتابه من ورائِهِ * وما هو إذا يغتابني متورِّعُ.
ومن هذه الصفات أيضًا: الصداقة على النعمة والرخاء فقط.
كما قيل:
إذا افتقرتَ نأى واشتد جانِبُهُ * وإن رآك غنيًّا لانَ واقتربَ.
وإن أتاك لمالٍ، أو لتنصرَهُ * أثنى عليك الذي يهوى وإن كَذِبَ.
مدلي القرابةَ عند النيلِ يطلبه * وهو البعيدُ إذا نالَ الذي طَلَبَ.
وكذلك يقدح في الصديق أن يغلب عليه الاتصاف بالجهل وعدم العقل.
كما قيل:
فلا تصحب أخًا * الجهل، وإياك وإياه.
فكم من جاهلٍ، أردى * حليمًا حين آخاه.
وقد يقدحُ في الصديق صفاتٌ أخرى غير التي ذكرناها، وقد تكون صفةٌ منها قادحةٌ في الصديق عند شخص ولا تقدح فيه عند آخر، وكلما كان الإنسان على درجةٍ أعلى من التحلِّي بالخلال والصفات الحسنة، علت مطالبه حول صفات الصديق، لأن الإنسان على قدر ما يطلب.
ولأن الصداقة لا تخلو من عواقب كما لا تخلو من نفع، فإن التثبُّت واختبار صفات الصديق وعرضها على ما ذكرنا من الصفات قبل أن تترسَّخ علاقة الصداقة مما يجب فعله، لأن من تربطك به علاقة الصداقة لا تُؤمن بوائقه إذا لم يكن متصفًا بصفات الصديق.
فإن الصديق لا يخلو من إفشاء سرٍّ لا يعرفه أحد إلى من يظن أنه صديقه، كما أن مكانة الصداقة تضعف في النفس عقب الخذلان ويصير عدم الثقة في ما يتأتَّى بعد ذلك من العلاقات هو الطابع الغالب.
ولذلك قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): “الإخوان بمنزلة النار، قليلُها متاع، وكثيرُها بوار”.
وهذا القليل هو الذي يتحلى بصفات وخلال الصديق.
الفكرة من كتاب الصداقة والصديق
يقال إن الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بطبعه، أي إنه لا يستطيع أن يحيا بمفرده دون أُناس آخرين، ولكن علاقات البشر لا تتبَعُ نمطًا واحدًا، بل يحكمها الكثير من المتغيرات لأن طبيعة الإنسان نفسها على درجةٍ عاليةٍ من التعقيد والتركيب الذي لا يخضع لتصنيف.
وأثناء رحلة الحياة يقابل الإنسان الكثير من الأشخاص، يربطه ببعضهم نوع علاقة ويعرض عن البعض الآخر، وعلاقاته ليست على وتيرةٍ واحدة، فمنها ما يقع تحت حيز التعارف، ومنها ما يصل إلى درجة الصداقة، ومنها ما يصل إلى حد العشق والحب .
ولمَّا كان للصداقة النصيب الأكبر من العلاقات في حياة الإنسان، أصبح لها مكانةٌ عظيمةٌ في النفوس.
فما مكانة الصداقة؟ وما صفات الصديق وخلاله وخصاله؟ وما الفرق بين الصداقة وغيرها من العلاقات؟ وهل يُمدح العتاب بين الأصدقاء أم يُذم؟
هذا ما سنتعرَّف عليه في ثنايا الرسالة التي بأيدينا.
فقد ألَّف أبو حيان هذه الرسالة عن الصداقة والصديق على نسق لم يسبق إليه أحدٌ قبله، أورد فيه قدرًا كبيرًا من أقوال الحكماء والشعراء حول موضوع الصداقة.
وكما يقول عن موضوع الرسالة هو موضوع لا يستقصي ما قيل فيه، ولو أردت الاستقصاء لمَا انتهيتُ من ذكر الأقوال، ولكن أورد أهم ما قيل فيه حتى لا تبعث هذه الرسالة على الملل والضجر.
مؤلف كتاب الصداقة والصديق
أبو حيان التوحيدي: فيلسوف وفقيه وأديب، عاش في القرن الثالث الهجري، وكان من أكثر أهل عصره معرفةً في مختلف العلوم.
كانت حياته مليئة بسوء الحظ وإعراض الدنيا عنه، ولا عجب أنَّ رجلًا بمثل ما كان عليه أبو حيان من العلم مع عدم بذل الدنيا له إلا القليل أن يصيبه بعضُ السأم والضجر من الحياة، ويُروى عنه أنه أحرق جميع كتبه قبل موته، ولذلك لم يصل إلينا منها إلا القليل.
له عدة مؤلفات أخرى وصلت إلينا مثل كتاب “البصائر والذخائر”، وكتاب “الإمتاع والمؤانسة”.