سبات عميق.. الفرنجة يدخلون لعبة العروش العربية

سبات عميق.. الفرنجة يدخلون لعبة العروش العربية
في الحقيقة لم يُلقِ أيٌّ من الأخوين، أميري دمشق وحلب، بالًا لحصار أنطاكية، فقد كان أميرها منافسًا مؤرقًا، وعلى كل حال فقد كانت أنطاكية تابعة لبيزنطة في ما سبق، ولن يتغير العالم كثيرًا لو عادت تلك المدينة إلى الحظيرة الرومية، وتكفل الجبن أيضًا بأمير حلب فتردد مرارًا وأحجم كثيرًا، لكنه تحت إصرار الرسل تحرك مُكرهًا لنجدة أنطاكية، لكن مع أول بادرة للاشتباك مع الجيش الفرنجي تقهقر جيشه وسُحق، ولم يبقَ للمترقبين وراء أسوار أنطاكية أي أمل للنجدة سوى من الموصل، وكانت القلوب في أنطاكية تخفق بالأمل تارة حين يسمعون أنباء المجاعة التي ضربت بالفرنجة أو اقتراب المدد، لكنها خفقت بالرعب طويلًا حين تأخرت تلك الجيوش شهورًا ولم تأتِ، وسقطت أنطاكية وهي تنتظر، لم تمهلها الخيانة طويلًا، ففي ليلة دموية تسللت الجحافل الفرنجية لتعمل السيوف في رقاب الأهالي وبطون النساء وتسكب الدم أنهارًا.

شاعت الحكايات والفظائع حول الغزاة الهمج أكلة البشر، فبعد المجازر في أنطاكية والمعرة لم يجرؤ الأمراء المسلمون إلا على مداهنة قادة الفرنجة وإتحافهم بالهدايا والعون، وتطلعت أعين الفرنج الشرهة إلى تلك الإمارة الزاهرة، طرابلس، لكن كانت الثمرة التي انتظروها طويلًا جاهزة للقطاف، فهناك في أحضان فلسطين كانت بيت المقدس هي غاية الغزاة البرابرة، ولم يكن الخليفة الفاطمي في مصر يعتقد أن تلك الجحافل غير المنظمة ستصل بها الشجاعة إلى الهجوم على ممتلكاته، لكن كان الأوان قد فات وسقطت القدس في النار والدم.
لم تكن آمال الفرنج مرتفعة ليطمحوا إلى تأسيس دويلاتهم الخاصة بهذه السرعة، فتتهاوى أمامهم حصون الشرق المنيعة ويجدون من قادة العالم الإسلامي كل هذا الخدر، لكن بفضل تهاون أولئك الأمراء في كل مرة وركونهم إلى الخيانة والتنافس المقيت في ما بينهم، ثبتت أركان الفرنج وأصبحت دويلاتهم في القدس وأنطاكية والرُّها أمرًا واقعًا، وامتدت سيطرتهم إلى بيروت وصيدا وطرابلس، ولم تمر سنوات معدودة حتى أصبح الفرنجة ركنًا وثيقًا يلجأ إليه الأمراء المتنازعون، وجاب السؤال أنحاء العالم العربي، لقد ملك الفرنجة بيت المقدس ومدنًا أخرى خربوها، فما الذي يمنعهم غدًا من القاهرة أو دمشق أو حتى بغداد؟
الفكرة من كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب
لا تزال ذكرى الحروب الصليبية حية حارة في أذهان العرب إلى اليوم، ولا تكف الأمثلة عن الظهور طوال الوقت، فمع كل هجوم يقع على العالم الإسلامي من جهة الغرب، لا يتمكن المرء من كبح ذهنه كيلا يرجع إلى تلك الأيام، فدائمًا كانت الحروب الصليبية موردًا غنيًّا للإسقاطات التاريخية، وبوسع العرب والمسلمين أن يجدوا فيها أمثلة لأحداث عصرهم وأبطاله، وإلى اليوم يقتبس الرواة صلاح الدين وسقوط القدس واستعادتها، وغالبًا ما تُوصف إسرائيل بأنها مملكة صليبية حديثة، ففي ثنايا تلك الأحداث كانت بداية العداء الطبيعي بين العرب والغرب، وكانت الحروب الصليبية هي التي حكمت على هذين العالمين بالفراق والحذر الدائم.
مؤلف كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب
أمين معلوف: أديب وصحفي لبناني، وُلد في بيروت عام 1949م، ودرس علم الاجتماع في جامعة القديس يوسف، وعمل في شبابه مُحررًا لدى جريدة النهار، ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976م انتقل إلى باريس حيث ما زال مقيمًا إلى اليوم، حصل معلوف على عديد من الجوائز والتكريمات مثل جائزة جونكور الفرنسية عن روايته “صخرة طانيوس”، ومن أهم مؤلفاته:
رواية سمرقند.
الهويات القاتلة.
موانئ المشرق.
عن المترجم:
عفيف دمشقية: لغوي وباحث ومترجم لبناني، ولد ببيروت عام 1931م، حصل على شهادة الماجستير في العلوم اللغوية في الجامعة اللبنانية، ثم حصل على شهادة الدكتوراه لاحقًا من جامعة السوربون في فرنسا، من أعماله:
سمرقند لأمين معلوف.
خفة الكائن التي لا تحتمل لميلان كونديرا.
الأجراس لأيريس مردوخ.