روحُ العصرِ وثوْراتُ التحرير
روحُ العصرِ وثوْراتُ التحرير
إنها لَمُفارقة جُغرافيةٍ مُثيرة، أن يستطيعَ مِليونانِ ومائتا ألفِ مِيلِ مُربع، هي كلُّ مساحةِ غربِ أوروبا، أن تنشُرَ نُفُوذَهَا واستعمارَهَا، على أكثرِ من سبعةٍ وخمسينَ مِليونَ ميلٍ مربع، هي مساحةُ العالمِ المعمورِ وغيرِ المعمور.
لكن إذا كان القرنُ التاسعَ عشرَ هو قرنُ الاستعمار؛ فإنّ القرنَ العشرينَ هو قرنُ التحرير؛ حيث إنّ ما بناهُ الاستعمارُ في خمسةِ قُرون، هدَمَهُ التحريرُ في عقدينِ اثنين، فبين 1945 – 1965 هَوَتْ رُقْعَةُ الاستعمارِ من 35% إلى 4%, أي أن مُعدلَ سرعةِ المدِ التحريري يعادِلُ عشراتِ أضعافِ مُعدلِ الزحفِ الاستعماري.
لقد تعاصرت هذه الظاهرة -ظاهرةُ التحرير- في العالم، بسبب روحِ العصر السائدة، فقد أصبحَ التحريرُ هو أيديولوجيةَ الشُعُوبِ التي طال كبتُهَا، ولكن أيضًا كان هناك عاملانِ رئيسيانِ وراء هذه الروحِ السائدة.
العامِلُ الأول: نموُ المستعمرات، مما جعلَ المستعمرَ يضطرُ لإدخالِ الوسائلِ الحضاريةِ والتكنولوجية؛ حتى يستفيدَ من المُستعمرة، وذلك عجّلَ بعمليةِ الاحتكاكِ الحضاريِ مع الوطنيين، وهو ما انعكَسَ عليهم نُموًّا في القوةِ البشريةِ والكفاءةِ الفنية، فيشتدُ ساعِدُهُم وقدرتُهُم الماديةُ على النضالِ السياسي.
العاملُ الثاني: انتهاءُ احتكارِ القوة العالميةِ في يدِ أوروبا الاستعمارية، فبريطانيا وفرنسا كانتا تطاردانِ إيطاليا وألمانيا وراء البحار، إلى أن جاءتِ الولاياتُ المتحدةُ وأرادت أن تَرِثَ الكلَ في صورةٍ جديدة، ذلك ساعدَ على تحريرِ المستعمرات.
لكن عَمَدَ الرجلُ الأبيض عند خروجه من المستعمرات، إلى تفتيت مناطقِهِ السابقة؛ حتى يضمنَ وراءَهُ نسيجًا مُتهالِكًا. ولعل المثالَ الصارخَ هو الاستعمارُ الفرنسيُّ في أفريقيا الاستوائية والغربية؛ حيث أعطت وحدتان اثنتان فقط نسلاً سياسيًّا بلغ 16 وِحْدة.
حتى العالمَ العربيَّ الذي كان واحدًا في ظلِ الاستعمارِ التُركي، أصبح عددًا من الدول يَزيدُ عن العشرينَ دولة، بينما تمزقتِ الهندُ إلى أربعٍ ثم خمسِ دُولٍ أو أكثر، والهندُ الصينيةُ الفرنسيةُ صارت 3 دُول.
الفكرة من كتاب استراتيجية الاستعمار والتحرير
يعتبر كتاب “استراتيجية الاستعمار والتحرير”، مدخلاً إلى علم الجغرافيا السياسية؛ حيث يأخذُكَ المؤلفُ في رحلةٍ؛ لاستكشافِ قوانينَ الجغرافيا والتاريخ، ويحللُ، لماذا قامتِ الإمبراطورياتُ والدولُ، بدايةً من فجر التاريخ إلى تاريخ إصدار الكتاب عام 1968.
كما يعرضُ أيضًا تاريخَ الاستعمار، لفَهْمِ دوافعِهِ ومآلاته؛ ثمّ يعرضُ حركاتِ التحرّر التي هدمت بُنْيَانَه.
مؤلف كتاب استراتيجية الاستعمار والتحرير
يُعتبر “جمال محمود صالح حمدان”، أحد أعلام الجغرافيا في القرن العشرين.
ولد “جمال”، بمحافظة القليوبية، في مصر عام 1928م، ونشأ في أسرة تنحدر من قبيلة “بني حمدان” العربية، التي نزحت لمصر بعد الفتح الإسلامي.
تمتاز كتاباته برؤية استراتيجية متكاملة للمقومات الكلية، للتكوينات الجغرافية والبشرىة والحضارية، ورؤية لعوامل قوتها وضعفها؛ فهو لم يتوقف عند تحليل الأحداث الآنية أو الظواهر الجزئية، وإنما سعى إلى وضعها في سياق أعم وأشمل، ذو بعد مُستقبلي.