ذنب بلا ذنب
استمر اللقاء بينهما أيامًا كانا فيها أسعد ما يكون، وصارت غرناطة شاهدًا على قصتهما، إلى أن رآهما ابن حاكم غرناطة “الدون رودريك”، فاستثار لرؤية الفتاة مع الفتى العربي، كيف وهو المحب الذي طرق بابها مرارًا، لكنها رغبت عن ابن قاتل أبيها، لم ينسَ اللورد حبه، فحدثته نفسه أن يعاود حديثه معها في اليوم التالي، وبالفعل ذهب إليها لكنها أبت لقاءه فخرج ينوي الانتقام الشديد.
بعد أيام معدودات، سيق الأمير سعيد بن يوسف بن أبي عبد الله إلى محكمة التفتيش، متهمًا بمحاولة إغواء فتاة مسيحية على ترك دينها، وهي تهمة لا تُغتفَر، فنفى الأمير التهمة عن نفسه، لكن القاضي لم يأبه بقوله وأخبره أن سبيل براءته الوحيد أن يترك دينه ويعتنق المسيحية، فصاح به سعيد بمحاضرة طويلة خرجت من قلبه وعقله، وحاججه بالمنطق، وتحدث عن الميثاق والوفاء، وعن حرية العقيدة وبطلان أفعالهم الدموية، فكان مما صاح به:
“… إن العهود التي تكون بين الأقوياء والضعفاء إنما هي سيفٌ قاطعٌ في يد الأولين، وغلٌّ ملتفٌّ على أعناق الآخرين، فلا أقال لله عثرة البلهاء ولا أقرَّ عيون الأغبياء!”.
لم يسمح له الرئيس بإكمال ما ينشد، وأمر أن يساق إلى ساحة الموت، ذلك المكان الذي اختتم فيه عشرات الآلاف من إخوته المسلمين حياتهم قتلًا وحرقًا.
اصطفَّ الناس حول منصَّة الإعدام يرقبون تنفيذ الحكم، وما إن استلَّ الجلاد سيفه حتى خرجت من بينهم صرخة امرأة أصمَّت الحضور، وعجزوا عن تحديد مصدرها، وفي تلك الأثناء سقط رأس سعيد آخر أبناء بني الأحمر، ليُكتب له ما كتب لأشقائه وأهله، وقد حظي بالرقود في مقابرهم، كان قبره جميلًا مميزًا بزخارفه المنحوتة على قالب من الرخام الأزرق الصافي، وفي وسطه حفرة يتجمَّع بها ماء المطر فيرتوي منها الطير، منقوشٌ عليه:
“هذا قبر آخر بني الأحمر، من صديقته الوفية بعهده حتى الموت… فلورندا فيليب”.
الفكرة من كتاب العبرات
العبرات مؤلف يحوي قصصًا تخوض في أبرز الصراعات المجتمعية حينها، وتفتح المجال واسعًا أمام فيض مشاعر مضطربة تعتصر لها القلوب شجنًا، فلا تدري أتتنهَّد عجبًا من جزالة الألفاظ أم أراقت دمعك المعاني الغنية، وقد جاء الكتاب في أربع حكايات ألفها المنفلوطي بنفسه وردت كالآتي: اليتيم، والحجاب، والهاوية، والعقاب، تلحقها أربع مترجمة أخرى، وهي: الشهداء، والذكرى، والجزاء، والضحية.
الجامع بين الروايات الثماني هو ألوان الشقاء والمآسي التي تُختتم بها، فلا تبتئس وتنفر قبل أن نبدأ، فليست تتشابه دوافعنا للحزن مع ما كانت عليه في بعض القصص، بينما ظل البعض الآخر نموذجًا حيًّا لآفات عصرنا ومشاكلنا، لذا حاول جاهدًا أن تستقي الحكمة من كل مطروح لعلَّك تظفر بما أغفله الكثيرون، أو جِد لنفسك سلوانًا بين مصابهم، فلمثل هذا السبب أوجد المنفلوطي العبَرات… للتعزية والمواساة.
مؤلف كتاب العبرات
مصطفى لطفي المنفلوطي: ولد الكاتب والشاعر نابغة الأدب عام 1876م لأب مصري وأم تركية، تلقَّى تعليمه في كتَّاب القرية أول الأمر، ثم انتقل إلى الأزهر ليستزيد من العلوم الشرعية والآداب، وانفرد المنفلوطي (رحمه الله) بكتابة بليغة أعجزت معاصريه، فكان ممتلكًا للُّغة حق الامتلاك، وله من القدرة ما يعينه على تطويعها كيفما شاء، فتنوَّعت مؤلفاته بين الشعر والمقال والمترجمات المنقولة من لغات أخرى والموضوع مما ألفه من قصص وروايات، نذكر من أعماله: مجلد “النظرات” في أجزائه الثلاثة، و”ماجدولين” و”في سبيل التاج”، وقد انتقل إلى جوار ربه في عام 1924م.