ذكريات
يذكر بول أن أباه كان دائم الغياب، حيث اعتاد في السنوات المبكرة من عمر بول الذهاب إلى العمل في الصَّباح الباكر قبل استيقاظه، ولا يعود إلى المنزل إلا بعد وقت طويل من نوم بول، فأصبح بمعنى الكلمة ابن أمه، يدور في فلكها المغناطيسي فقط، وحذَّرها والده مرارًا: “لا تهتمي به كثيرًا سوف تفسدينه”، لكن صحة بول لم تكن جيدة، واستخدمت أمه هذه العلة لتبرير اهتمامها المسرف به، وكان كل ما أراده بول هو أن يلاحظه أبوه، فعاش الكثير من خيبات الأمل في حياته، لديه شغف لتحقيق كل ما هو استثنائي كي يثير إعجابه، وكلما تجاهله، زادت رهاناته، على الرغم من كون الصبي أصلًا ضعيف البنية، ففي العاشرة من عمره فقط كان لاعب بيسبول جيدًا.
وبعد مرور الكثير من المواقف الناجحة والفاشلة، أدرك بول أنه حتى ولو حقَّق ما يطمح إليه، فإن نظرة أبيه نحوه لن تتغيَّر، والشيء المميز الوحيد له أنه ابن هذا الرجل، أما أخت بول فكان أمرها أسهل من ذلك في البداية، كانت طفلة رقيقة جدًّا، سريعة البكاء، وحيدة دائمًا، ترقص الباليه، حُكم عليها بحياة من الصراع الداخلي الدائم منذ طفولتها، عانت نوباتٍ من الغضب والبكاء المرير، وكل الحلول التي تم تجريبها لم تنجح معها، كانت أكثر حساسية من بول، يتضخَّم شعورها بعدم الأمان كل يوم، لهذا كان الرد العفوي لأي أحد يتعرَّف عليها، هو أن يحميها من اعتداءات العالم عليها، ومثل الجميع قام والده أيضًا بتدليلها، وعانت خلال حياتها سلسلة من الانهيارات الذهنية، واستمر والده مؤمنًا بأنها ليست مصابة بأي سوء.
شيئًا فشيئًا، وبينما راحت تسوء حالتها، بدأ والدها تقبُّل مرضها، وصار مقتنعًا أن الشيء الوحيد لعلاجها هو برنامج قاسٍ من المعالجة بالفيتامينات المركَّزة، لأنه لن يضطر إلى مصارعة أسباب المرض النفسية، فاعتبر المرض كأنه خلل جسدي، ورفض أن يقوم غيره بعنايتها، وعلى الرغم من ذلك فقد استمر في تركها وحيدة بالمنزل، تهيم على وجهها كالأشباح.
الفكرة من كتاب اختراع العزلة
ما من أمر باقٍ في أمور الحياة سوى الموت؛ هذه هي الحقيقة التي لا يمكن تبسيطها، يستطيع الأشخاص أن يرضوا بالموت ويرضوا بوقوعه بعد طول مرض، وأحيانًا يرجعونه إلى القدر في الحوادث العرضية، لكن أن يموت رجل دون سبب واضح، أن يموت لأنه رجل وحسب! فهذا ما يقرب الأشخاص من الحد الخفيِّ بين الحياة والموت!
يعدُّ هذا الكتاب مذكِّرات عن والد الكاتب بول أوستر الذي تُوفِّي على نحو غير متوقَّع.
مؤلف كتاب اختراع العزلة
بول أوستر Paul Auster: كاتب ومخرج أمريكي، ولد في 3 فبراير عام 1947، كان عضو الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب، وتعد كتاباته خليطًا بين العبثية والوجودية وأدب الجريمة، والبحث عن الهوية والمعاني الإنسانية، وقد ترجمت كتبه لأكثر من أربعين لغة.
وأبرز أعماله:
قصر القمر.
كتاب الأوهام.
ثلاثية نيويورك.
موسيقى الصدفة.
حماقات بروكلين.