دوام صلاح المجتمع
دوام صلاح المجتمع
إن المجتمع لا يعتمد فقط على مكارم الأخلاق، وإنما يقتضي حكومة تمسك بزمامه، وتُصرف أحواله على عدة مبادئ، ومن أهمها مبدأ المساواة، فما المساواة وكيف يمكن تطبيقها؟
قد يخيل للناظر في الأمر أن المساواة تقتضي التساوي في كل الأمور، لكن الأمر ليس على عمومه، فالمساواة التي سعت إليها الشريعة مساواة مقيدة بأحوال، لأن أصل خلقة البشر جاء متفاوتًا في المواهب والأخلاق، فتتعذر مساواة شيئين في جميع الأحوال، إذ لا بد للشيئين المتغايرين من فروق ومميزات.
إذًا المقصود بالمساواة هو التماثل في معظم الأشياء، أو في المهم منها، أو في الغرض المقصود، فيكون تماثل على قسمين: أصل عقدي وأصل تشريعي، فالأصل العقدي هو المساواة بين المؤمنين، فهم كالأخوة، وتتبعها المساواة في تلقي الشريعة والعبادة والقرب من الله، فهذا يتعلق بالجميع بالتساوي إلا من عنده مانع، فالجميع يعبد الله عبادة واحدة.
أما الأصل التشريعي، فهو المساواة باعتبار البشرية وحقوق الحياة، لهذا لغى الإسلام الطبقية، ولم يميز الناس على أساس ألوانهم ولغاتهم وعاداتهم، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلا بِالتَّقْوَى»، فنشأ عن هذا اعتبار التساوي في حق الوجود، ما لُقب بحفظ النفس، وحفظ النسب، وفي وسائل العيش المعبر عنها بحفظ المأوى، وفي أسباب البقاء بحالة نافعة المعبر عنها بحفظ العقل، وفي الانتساب إلى جماعة المسلمين والمعبر عنها بحفظ الدين، ويطلق عليها جميعًا لفظ مقاصد الإسلام،²³ ولا يخرج الناس من هذه المساواة إلا بمانع.
ومجموع القسمين التشريعي والعقدي هو العدل، والعدل يقتضي التوسط فقد قال تعالى: ﴿وَكَذَ ٰلِكَ جَعَلۡنَـٰكُمۡ أُمَّةࣰ وَسَطࣰا﴾، وهو أن يعطى كل ذي حق حقه، فيتمكن صاحب الحق من حقه إما بيده أو بيد نائبه. والعدل والمساواة يقضيان الحرية، ومفهوم الحرية يرتبط بمفهوم العبودية، فمن المعلوم قديمًا أن الناس كانوا يعيشون في طبقات الأشراف والعبيد، فالعبد هو المملوك الذي لا سلطة له على فعل ما يشاء وقتما شاء، ونقيض ذلك يكون معنى الحرية وهو أن يفعل الإنسان ما يريد، ولكن هذا غير ممكن على الحقيقة، لأن الناس إذا سكنوا وتعايشوا معًا طرأ بينهم تزاحم في الرغبات، فكان لا بد من أن يقصر المرء في حريته مراعيًا حرية غيره. إذًا فالحرية تُحَد بحسب الجمع بين مصالح الجماعات والرابط فيه ألا يلحق فعل المرء ضررًا بغيره، ولا يعود تصرفه عليه بالسوء، ومن هذا المنطلق تأتي أنواع الحرية من حرية المعتقد والتفكير وحرية القول والفعل. وإن هذه الحرية محاطة بسياج الحقوق، وتعيين الحقوق من أصل العدل فقد قال تعالى: ﴿إنَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَاۤ أَرَىٰكَ ٱلله وَلَا تَكُن لِّلۡخَاۤىِٕنِینَ خَصِیمࣰا﴾.
الفكرة من كتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام
كيف تُبنى النظم الاجتماعية؟ يعد الحديث عن المجتمع وأسسه من عوامل تقدّم المجتمع وانحطاطه، مما أثار تساؤل الكثيرين قديمًا وحديثًا؛ يتناول البعض البحث عنه من جانب الإنسان وتطوّره، ويتناول البعض الآخر البحث من جانب الحكومات، وما ينبغي توفيره لصلاح مجتمعاتها، لكن هل يدخل الدين في إصلاح هذا الأمر؟ أم أن الدين متعلق فقط بما يعتقده المرء ولا يُرجى منه عمل في الحياة الاجتماعية؟
يحدثنا الكاتب عن الدين بمفهومه الشامل، والغرض منه، من تغييره في فكر المرء وصلاح حاله، ومنه إلى صلاح المجتمع. فما الدين؟
مؤلف كتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام
محمد الطاهر بن عاشور: عالم وفقيه تونسي، أصل أسرته من الأندلس، ولد بتونس عام 1879م، تعلم بجامعة الزيتونة، ثم أصبح من كبار أساتذتها. تولى منصب القضاء المالكي عام 1911م وارتقى لمرتبة الإفتاء في عام 1932م، واختير لمنصب شيخ الإسلام المالكي، وكان أول شيخ بجامعة الزيتونة. وقد ألف الشيخ في العلوم الإسلامية والعربية، ومن أبرز مؤلفاته:
تفسير التحرير والتنوير.
مقاصد الشريعة الإسلامية.
أصول الإنشاء والخطابة.
موجز البلاغة.