حيٌّ بلا روح
هذه القصة -وثلاث أخرى- أوجدها المنفلوطي لحاجة في نفسه دعته إلى الكتابة، فجاءت هي في صدر الكتاب تحت مسمَّى “اليتيم”، نقصُّها عليكم في جزأين، محاولين استعراض قدر بسيط من العواطف والتفاصيل التي امتاز كاتبنا بالإسهاب فيها.
فتى في عمر الزهور لم يبلغ العشرين، جاء يقطن الغرفة العليا من منزل يطل على نافذة الراوي، شاب ليس كغيره، هزيل الجسد مثقل القلب يجتاحه العوز، ينهمك في الدراسة انهماكًا غير منقطع، وسيل دمعه الحارق كذلك لا يقف، يستمر الليل وكل ليل، بعيون أفحمها الهم وخالطها النوم، فحزن لأمره الراوي، وأخذ يراقب أمره بشفقة تودُّ لو بإمكانها التدخُّل علها تخفِّف ما به من ثقل، حتى جاء يوم أظلمت فيه الغرفة وبدت كأنها خالية إلا من أنين مريض ينازع أمره، فأسرع إليه محدِّثُنا يتفقَّده وينقل لنا ما صار إليه.
وقف صاحبنا ببابه فنال منه شعور موحش كأنه بصدد توديع شخص في قبره، إنها غرفة مقفرة، تخلو من الحياة وبواعثها يغيب عنها الدفء، ولم يملك سوى الدخول لنجدة من بها، ثم ألقى السلام وأوضح سبب مجيئه معربًا عن قلقه، لكن الصبي كان مرميًّا على سريره بجسده الغارق في ثوبه لا يدري عن حاله شيئًا، ورأسه يغلي من الحمى فأسعفه بما يعلم، ثم نادى له طبيبًا، لكن الطبيب أسفًا لم يجد في الطب ما يحول عنه الخطر إلا بأمرٍ من عند الله، وانصرف، فحاول الرجل محادثة العليل ربما يجد ما يعينه به، فأخذ عليه الصبي عهدًا بحفظ سره إذا ما عاش وأن يحقِّق له وصيته إذا ما مات، فوافق وبدأ الصبي السرد ببقايا صوت مكلوم..
الفكرة من كتاب العبرات
العبرات مؤلف يحوي قصصًا تخوض في أبرز الصراعات المجتمعية حينها، وتفتح المجال واسعًا أمام فيض مشاعر مضطربة تعتصر لها القلوب شجنًا، فلا تدري أتتنهَّد عجبًا من جزالة الألفاظ أم أراقت دمعك المعاني الغنية، وقد جاء الكتاب في أربع حكايات ألفها المنفلوطي بنفسه وردت كالآتي: اليتيم، والحجاب، والهاوية، والعقاب، تلحقها أربع مترجمة أخرى، وهي: الشهداء، والذكرى، والجزاء، والضحية.
الجامع بين الروايات الثماني هو ألوان الشقاء والمآسي التي تُختتم بها، فلا تبتئس وتنفر قبل أن نبدأ، فليست تتشابه دوافعنا للحزن مع ما كانت عليه في بعض القصص، بينما ظل البعض الآخر نموذجًا حيًّا لآفات عصرنا ومشاكلنا، لذا حاول جاهدًا أن تستقي الحكمة من كل مطروح لعلَّك تظفر بما أغفله الكثيرون، أو جِد لنفسك سلوانًا بين مصابهم، فلمثل هذا السبب أوجد المنفلوطي العبَرات… للتعزية والمواساة.
مؤلف كتاب العبرات
مصطفى لطفي المنفلوطي: ولد الكاتب والشاعر نابغة الأدب عام 1876م لأب مصري وأم تركية، تلقَّى تعليمه في كتَّاب القرية أول الأمر، ثم انتقل إلى الأزهر ليستزيد من العلوم الشرعية والآداب، وانفرد المنفلوطي (رحمه الله) بكتابة بليغة أعجزت معاصريه، فكان ممتلكًا للُّغة حق الامتلاك، وله من القدرة ما يعينه على تطويعها كيفما شاء، فتنوَّعت مؤلفاته بين الشعر والمقال والمترجمات المنقولة من لغات أخرى والموضوع مما ألفه من قصص وروايات، نذكر من أعماله: مجلد “النظرات” في أجزائه الثلاثة، و”ماجدولين” و”في سبيل التاج”، وقد انتقل إلى جوار ربه في عام 1924م.