حق التصرف في الجسد
حق التصرف في الجسد
إن المسار ما بعد التخليقي يتجاوز اليوم مجال الأخلاق الجنسية، واستولى على “الأخلاق الفردية” وهي واجبات الإنسان تجاه نفسه، ففي عصر الواجب كان على كل فرد احترام الإنسانية التي فيه، ومن ثمَّ لا يمكن للمرء أن يتصرَّف في نفسه بأي وسيلة كالانتحار والأعمال غير الأخلاقية، ومن يفعل ذلك كان يثير مشاعر الاشمئزار والاحتقار، لأنه يلحق الأذى بالكرامة الإنسانية الموجودة في ذاته، بينما في عصر ما بعد التخليقي فقدت الواجبات شرعيتها، فلم يعد أحد يدري ما المقصود بالأخلاق الفردية، وبناءً على ذلك، تحولت الواجبات تجاه الذات إلى حقوق ذاتية، فصرنا نشعر بالإلزام تجاه الآخرين دون أنفسنا.
وقد ترتب على ذلك، ظهور مبدأ “الشخص مالك جوهري لنفسه”، ومن ثمَّ فهو حر في وضع حد لحياته متى شاء، فلم يعد “الانتحار” خرقًا لواجب أخلاقي يثير الإنكار، بل صار يثير التعاطف! ومن ثم فإن تراجع التأطير الديني، وتعميم الثقافة النفسانية قد ساهما في نزع الأخلاقية عن الانتحار، وإفراغ واجب الحفاظ على الحياة من جوهره، إضافة إلى ذلك لم يعد الخطأ ملحقًا بالشخص الذي قتل نفسه، بل أصبح الخطأ يُلحق بالأقرباء والأصدقاء والمحيطين به، لأنهم من دفعوه إلى ذلك، أو لم يحولوا بينه وبين تدمير ذاته!
كما حدث تحول درامي في علاقة الإنسان بجسده، ففي عصر الواجبات تجاه الذات كان يصنَّف “بتر الأعضاء” عملًا غير أخلاقي، وكان يوصف بأنه نوع من الانتحار الجزئي، وكان يعد جريمة ضد الذات مثله مثل الانتحار، لكن في عصر ما بعد التخليقي صار ينمو حق التصرف في الهوية الجنسية والمدنية، والتوجه نحو السماح بالتحول الجنسي، وزواج المتحولين جنسيًّا، وقد أدى التوسع في الحق الفرداني في التصرف الحر في الجسد إلى انتشار ظاهرة “الأمومة البديلة”، فصار يُباح للمرأة أن تؤجر رحمها بمقابل مادي! فدخلت الولادة في الخدمة الذاتية الفردانية والعقد التجاري في مواجهة صريحة للأخلاق التقليدية، وفوق ذلك لا يوجه النقد إلى الأمهات البديلات، بل يوجه إلى بؤس النساء المجبرات على صناعة طفل بمقابل مادي، وصار يُنظر إليهن على أنهن ضحايا للمال لا مخطئات!
الفكرة من كتاب أفول الواجب.. الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة
يُبين المؤلف أن الأخلاق مرّت بثلاث مراحل، هي: مرحلة الأخلاق التقليدية الدينية، ومرحلة أخلاق الواجب التي فصلت بين الأخلاق والدين، ومرحلة أخلاق ما بعد التخليقية التي نعيشها الآن، وهي أخلاق ليس فيها إثم أو ألم وخالية من الإلزام ولا يترتب عليها أي عقاب، ويوضح أثر أفول الأخلاق الدينية وأخلاق الواجب في الأسرة والجسد والعمل والصحة والبيئة وعالم الأعمال.
مؤلف كتاب أفول الواجب.. الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة
جيل ليبوفتسكي : هو فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، له عدد من الدراسات والبحوث في نقد الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والرأسمالية النيوليبرالية، وتفكيك بِنى المجتمعات الاستهلاكية، من مؤلفاته:
مملكة الموضة.
المرأة الثالثة.
الترف الخالد.
الشاشة العالمية.
عصر الفراغ.
معلومات عن المترجم:
البشير عصام المراكشي: هو كاتب مقالات فكرية ودراسات شرعية، مدون وباحث ومفكر مغربي، حاصل على شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، له العديد من المحاضرات والدروس العلمية، من مؤلفاته:
العلمنة من الداخل.
شرح منظومة الإيمان.
تكوين الملكة اللغوية.