حب النفس والكرامة الإنسانية
حب النفس والكرامة الإنسانية
إن وصيَّة “أحبب جارك كما تحب نفسك”، تجعل من حب النفس مسألة بدهيَّة لا شك فيها، إذ إن حب النفس موجود دائمًا، لأنها مسألة بقاء لا تحتاج إلى وصايا، لكن حب الجار مثل حب النفس يجعل الإنسان مختلفًا عن غيره من الكائنات الحية لأنها تتحدَّى الغرائز الطبيعية، وتعارضها، وتتحدَّى معنى البقاء، فنحن نحب في أنفسنا جدارتها بالحب، والحالة التي نكون فيها موضوعات تستحق الحب، اللحظة التي يعترف فيها من حولنا أننا جديرون بالحب، واللحظة التي نحصل عندها على دليل بذلك الاعتراف، فإذا احترمك الآخرون فلا بد أن هناك شيئًا فيك، أنت وحدك القادر على تقديمه، فأنت لست مجرَّد رقم يمكن استبداله بسهولة والتخلُّص منه، فأنت ذو تأثير بالغ يتجاوزك، فمهما كان العالم من حولك من بشر، فإن هذا العالم سيكون أكثر فقرًا وأقل إمتاعًا ونجاحًا إذا ما اختفيت فجأة عن الوجود، أو غادرت إلى مكان آخر، وبناءً على ذلك فإن حبنا لجيراننا مثلما نحب أنفسنا سيعني احترام تفرُّد كل إنسان منَّا.
أصبحنا في هذا العصر الذي تستحوذ عليه الإحصاءات والمتوسطات والأغلبيات، نميل إلى قياس درجة اللاإنسانية والشر والقسوة والعدوان وبشاعة الظلم بعدد الضحايا، فالحياة صارت تدور حول البقاء للأقوى، وما دمت الأقوى فيمكنك النجاة، والإفلات من العقاب، وكل ذلك راجع إلى نزع إنسانية المجني عليه، والتدمير الأخلاقي للجاني، فالسجن دون محاكمة، وإعدام المشتبه بهم، ونشر الرعب، والبحث عن وسائل ترهيب جديدة أكثر إيلامًا وترهيبًا غير التي ألفها الناس، أثبتت كفاءتها عند الإنسان الحداثي السائل، ومن ثمَّ أثبتت عقلانيتها، رغم أنه كما قال لودفغ فيتجنشتاين: “لا صرخة من العذاب أشد من صرخة إنسان وحيد، ولا عذاب أشد مما يمكن أن يعانيه إنسان وحيد، ولا معاناة الكوكب بأسره أشد من عذاب روح وحيدة!”، يتفق الكثيرون أن الألم والمعاناة المفتقرة إلى المعنى والهدف لا يمكن قبولها ولا الدفاع عنها، لكن هناك فئة قليلة منَّا على استعداد للاعتراف بأن تجويع إنسان واحد، أو التسبُّب في موته، لا يمكن أن يكون مبررًا، مهما كان الثمن الذي سيُدفع من أجله ذا معنى وقيمة، فامتهان الكرامة الإنسانية أو إنكارها لا يمكن أن يكون ثمنًا مناسبًا لأي شيء، فكل قيمة يجب أن تكون مشروطة باحترام الكرامة الإنسانية وتدافع عنها، وبالتالي فإن من يسعى إلى قتل الإنسانية الكامنة في أناس آخرين يبقى حيًّا بجسده بعدما ماتت إنسانيته!
الفكرة من كتاب الحب السائل.. عن هشاشة العلاقات الإنسانية
المرء يمكن أن يقع في الحب أكثر من مرَّة، وبعض الناس يفتخرون أو يشكون أن الوقوع في الحب والخروج منه يحدث لهم بكل سهولة، وكلنا سمعنا عن أشخاص ميَّالين إلى الوقوع في الحب وقابلين للوقوع فيه، فأهل زمننا يميلون إلى إطلاق كلمة “الحب” على أكثر من تجربة مرُّوا بها في حياتهم، إنهم أُناس لا يملكون أن يجزموا بأنَّ الحب الذي يعيشونه الآن هو الأخير، بل يتوقَّعون المزيد من تجارب الحب، فلا ينبغي أن نُدهش، فلقد انقضى عهد “الحب الرومانتيكي”، القائم على مقولة: “تعاهدنا على ألا يُفرِّقنا إلا الموت”، لقد انتهى تاريخ صلاحية هذا التعريف الرومانتيكي! إذ أصبحنا في عصر تكتنفه هشاشة العلاقات الإنسانية، وصار فن قطع العلاقات مقدمًا على فن بنائها وتكوينها!
مؤلف كتاب الحب السائل.. عن هشاشة العلاقات الإنسانية
زيجمونت باومان: هو عالم اجتماع بولندي، شغل مقعد بروفيسور علم الاجتماع في جامعة ليدز، حصل على العديد من الجوائز، وتقاعد منذ عام 1990، اشتهر بتحليلاته للحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والاستهلاكية المادية والنظام الأخلاقي، له أكثر من 70 كتابًا، منها:
الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين.
الحياة السائلة.
الحب السائل.
الشر السائل.
الخوف السائل.
المراقبة السائلة.
الحداثة والهولوكوست.
معلومات عن المترجم:
حجاج علي أبو جبر: هو كاتب ومترجم مصري، يعمل مدرس بقسم النقد الأدبي بأكاديمية الفنون بمصر، درس الأدب الإنجليزي، وحصل على الدكتوراه في النقد الثقافي من جامعة القاهرة، له عدد من المقالات النقدية، ومن ترجماته كتب باومان سالفة الذكر.