جماد “هو” و”هي” واللا وعي
جماد “هو” و”هي” واللا وعي
أكثر الاختلافات اللغوية وضوحًا هو التفرقة حسب النوع باستخدام الضمائر المذكرة والمؤنثة للكائنات الحية والجمادات وهو ما يطلق عليه التفرقة الجندرية.
في حين أن هناك لغات لا تفرق جندريًّا إلا بين الذكر والأنثى كالإنجليزية، فهناك لغات تخلو من أي جندرية نحوية كالتركية والإندونيسية، وحتى الضمائر التي تخص الكائنات البشرية تخلو من التعبير عن أي فروقات جندرية، وهناك لغات أخرى تملك أنظمة جندرية متطرفة تميز فيها الجمادات من الأشياء كاللغة العربية واللغات الأوربية، وبعد الإشارة إلى هذا الفارق يجدر التعمق في الفكرة الرئيسة: هل يتأثر تفكير المتحدثين بلغات تميز الجمادات من حيث التذكير والتأنيث نحو الأشياء ذاتها؟
إن اللغات التي تفرق جندريًّا بين الأشياء تفرض على المتكلمين بها ربط تلك الأشياء بالصيغ النحوية ذاتها التي تُربَط بالجنسين، ولبحث مدى تأثير جندرية الأشياء في الفكر، أجرت عالمتان تجربة باللغة الإنجليزية، التي لا تفرق جندريًّا بين الأشياء، على مجموعتين تتحدثان بلغتين من أشهر اللغات التي تملك نظمًا جندرية متمردة وهما الإسبانية والألمانية، وُزِّعت قائمة تتضمن ٢٤ جمادًا ويقابل كل جماد اسم بشري، على سبيل المثال أُعطِيَ اسم مايكل للتفاحة، وطُلب من المجموعتين حفظ هذه الأسماء، واختُبِرتا بعد مرور الزمن المحدد، وبعد التحليل تبين أن المجموعتين تمكنتا من حفظ الأسماء بشكل أفضل حينما كان جندر الشيء في لغتهما يطابق جنس الاسم، وبعد إجراء مزيد من الأبحاث أُثبِت أن تذكير الأشياء وتأنيثها في اللغة الأم يرتبط ذِهنيًّا بالتفكير في الأشياء على أنها رجولية أو نسائية.
بينما تتوسع التجارب والدراسات نحو دراسة تأثير اللغة في مختلف جوانب الفكر، تظل جوانب الإدراك والذاكرة وترابط الأفكار وحس الاتجاهات أكثر الجوانب التي أُثبِت تأثير اللغة فيها بشكل مقنع.
أما عن كيف يُتوقع أن تؤثر اللغة في التفكير، فإنه على الأغلب يحدث عبر التربية والتنشئة في مجتمع ما، عن طريق ممارسة العادات المطورة نتيجة الاستخدام الدائم لأنماط تعبيرية معينة تفرضها كل لغة على متحدثيها في أثناء التواصل.
الفكرة من كتاب عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟ عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟
لنقل أنك بعد تأملك في السماء الصافية وجهت سؤالًا واحدًا إلى ثلاثة أشخاص من جنسيات مختلفة، وكان السؤال هو “كيف تبدو السماء؟”، فجاءتك الإجابات كالتالي: “السماء جميلة وسوداء”، “السماء جميلٌ ولونه أزرق”، “السماء جميل/ة كالنحاس”.
إن كنت تقرأ هذه السطور بلسان عربي، فمن المؤكد أن تلك الإجابات تبدو غير عقلانية بالنسبة إليك، وبعيدة تمام البعد عن الواقع والحقيقة والمنطق، والأغلب أنك ستشكك في صدق المتحدثين أو سلامة قواهم العقلية.
ولربما ستشك في قواك العقلية إن علمت بالفعل بأن الثلاث جمل لا تشكو من خلل، وأنها منطقية وسليمة عقلانيًّا ولُغويًّا، وأن الفيصل الوحيد الذي يمكن الرجوع إليه هنا هو اللغة الأم لقائل كل جملة. إن الاختلافات البسيطة بين اللغات تبدو واضحة وضوح الشمس إن صِيغَت بهذه الطريقة، ولكن هل هي مجرد اختلافات لغوية؟ أم أنها تعبر عن اختلافات ثقافية ولغوية؟ وهل اللغة مجرد أداة، أم هي الصانع؟ ومن أين تأتي اللغة في الأساس؟ هل هي نتاج ثقافي، أم موروث طبيعي؟ هل تشكلنا اللغة أم نشكلها نحن؟
مؤلف كتاب عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟ عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟
غاي دويتشر :زميل باحث فخري بقسم اللغات واللغويات والثقافة في جامعة مانشستر، حصل على درجة الدكتوراه في اللسانيات من جامعة كامبريدج، وأجرى عديدًا من الأبحاث في اللسانيات التاريخية هناك، كما عَمِل أستاذًا في قسم اللغات والثقافات في الشرق الأدنى القديم بجامعة ليدن بهولندا.
من مؤلفاته:
كتاب “تجلي اللغة: جولة تطويرية عبر أعظم اختراع إنساني”.
معلومات عن المترجمة:
حنان عبد المحسن مظفّر
نائبة رئيس الجامعة لشؤون الطلبة في الجامعة الأمريكية بالكويت، وحاصلة على الدكتوراه في الأدب والنقد من جامعة إنديانا في بنسلفانيا، شغلت منصب أستاذ مساعد سابق في قسم اللغة الإنجليزية وقسم الدراسات العليا بجامعة الكويت، ولها عديد من الأبحاث المنشورة في النقد الأدبي والأدب الأمريكي، وفي الوقت الحالي هي عضوة في هيئة تحرير سلسلة «إبداعات عالمية» الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وقد ترجمت بعض الأعمال المهمة التابعة للسلسلة، ومن أمثلتها:
“ما بعد الإنسان” لروزي بريدوتي.
رواية “جمعية غيرنزي للأدب وفطيرة قشر البطاطا” لماري آن شيفر.