تمدين المتوحشين
تمدين المتوحشين
تحت شعارات تمدين المتوحشين في الدنيا وإنقاذ أرواحهم في الآخرة كان نظام “السخرة” من أشد العوامل التي ساعدت على إفناء تلك الشعوب بالإضافة إلى التجويع الممنهج والترحيلات القسرية، فهذا التمدين لم يكن إلا مصيدة للهنود، حيث كان الجنود يطاردونهم للوصول إلى الأسوار المنصوبة على شكل زوايا حادة فيما يسمى “المصيدة”، وهي أشبه ما يكون بحظائر الكلاب، يُحتجزون فيها ولا يخرجون إلا للعمل الإجباري في الحقول والطواحين والمهام القذرة أو لقضاء حاجتهم على نحو جماعي في حفر، وكانوا يتعرضون للتجويع، الأمر الذي انتهى بأغلبهم إلى الموت خلال ثلاثة أسابيع، ففي ولاية كاليفورنيا وحدها أُبيد ثمانون بالمائة من الهنود خلال عشرين عامًا بسبب نظام السخرة.
وفي عام 1850 تم تشريع قانون الحماية الهندية الذي منح اختطاف الهنود واستعبادهم صبغة شرعية، وبموجب هذا القانون وتبعاته تم إجبار عشرة آلاف هندي للعمل بالسخرة، أما الذين حاولوا الهرب إلى الغابات والجبال، فقد تحوَّلوا بموجب هذه القوانين إلى لصوص معتدين على أملاك الغير، أملاك الولايات المتحدة الأمريكية! هذا التشريع فتح الباب أيضًا لاختطاف الأطفال والتجارة بهم للعمل بالريف، ومع تناقص عدد النساء الهنديات كان يتم اختطاف الفتيات الصغيرات للخدمة والمتعة، وكان الخاطفون يقتلون الآباء الذين صنفوا من عناصر الشغب ليصبح اختطافهم الأطفال عملًا خيريًّا نبيلًا لإيواء هؤلاء اليتامى!
ومن نجا من العمل بالسخرة ربما كان ممن تم ترحيلهم على نحو جماعي، حيث وضع الكونجرس عام 1830 قانونًا لترحيل الهنود إلى غرب نهر المسيسيبي، وصار من حق المستوطنين طرد الهنود من بيوتهم وأراضيهم وأن يقتلوهم إذا استدعى الأمر، فكانت “رحلة الدموع” التي تعمَّد الأمريكيون فيها أن يأخذوا الهنود عبر أماكن موبوءة بالكوليرا، بالإضافة إلى الأطعمة الفاسدة، وكانوا يقطعون الأميال فيهوي منهم من يهوي بالمرض أو الجوع أو الصقيع والإجهاد.
الفكرة من كتاب أميركا والإبادات الجماعية
“تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض، إن أول ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزومين، ويا الله! ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض، هذه واحدة من الإبادات الكثيرة التي واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون، فإن جلادنا المقدس واحد”.. بهذه الشهادة لمايكل هولي أحد نشطاء هنود شعب سو عام 1996 يبدأ منير العكش كتابه الذي يجمع فيه عددًا كبيرًا من الشهادات لمعرفة تاريخ الشعوب الأصلية في أمريكا من الهنود الحمر، تاريخ مائة واثني عشر مليون إنسان لم يبقَ منهم سوى ربع مليون في أول القرن العشرين، في الوقت الذي يوهمنا فيه تاريخ المنتصر بروايات الأرض الفارغة، ووحشية الشعوب الهندية، والخسائر الهامشية في سبيل تحقيق أقدار الله.
مؤلف كتاب أميركا والإبادات الجماعية
منير العكش: ناقد وباحث وأستاذ الإنسانيات ومدير الدراسات العربية في جامعة سفك في بوسطن، ومؤسس مجلة “جسور”، كان لتاريخ الهنود الحمر نصيب كبير من اهتمامه وبحوثه بالإضافة إلى ظاهرة الصهيونية غير اليهودية.
ألف كثيرًا من الكتب منها: “أميركا والإبادات الجنسية”، و”عن الشعر والجنس والثورة” بالمشاركة مع نزار قباني، و”الثقافة ومقاومة الموت”.