تسلُّط الرغبة
تسلُّط الرغبة
رأى “ماركوزه” أن العلاقة الضدية بين رغبات الفرد الغريزية ومتطلبات المجتمع واحتياجاته أمر عالمي حتمي، يؤدي إلى كبت الغرائز الفردية التي تفضي إلى التعاسة والعصاب كثمن يدفعه الفرد من أجل الحضارة، فقديمًا لُجمَ السلوك العاطفي الانفعالي المتصل بالبواعث الجنسية والضارة عن طريق ضبط النفس، بالتعاون بين الأسرة ورجال الدين لغرس القوة الضابطة في الأجيال الجديدة، ومن ثمَّ كان الاتجاه نحو ضبط النفس أحد معاني الحضارة، تغيرت هذه البنية للنفس الحديثة تغيرًا دراماتيكيًّا في المجتمعات الغربية الرأسمالية المتقدمة في حقبة ما بعد الحرب العالمية وفقًا لمبدأين؛ الأول “مبدأ ندرة الموارد” الذي على أساسه انتصر مبدأ الواقع على مبدأ اللذة، فقبل الحرب كان هناك تخلٍّ عن إشباع الغرائز أو تأجيلها لمرحلة الكِبر أو الدار الآخرة، أما في المجتمع المترف وجد كبت مفرط عكس فائض الربح المقدَّم للرأسماليين من قبل العمال الذين يؤدون أعمالًا بأجور أدنى من استحقاقهم، ونتيجة لهذا الفائض من الكبت عمل العمال أكثر بكثير مما تقتضيه الضرورة من أجل تلبية احتياجات زائفة لفَّقتها الإعلانات لحماية نظام الإنتاج والنظام الاقتصادي الرأسمالي من الانهيار.
أما المبدأ الثاني، فهو “مبدأ الأداء” وهو مطالبة عمال المجتمع الحديث مطالبة لا عقلانية دائمة بالإنتاج، لإثارة استهلاك وإنتاج مستمرين، حتى أوقات الفراغ والاستمتاع تُملأ بالأعمال ويتم الانشغال بتحدي الذات ومنافسة الآخرين، وسلوك الشراء القهري، حتى المجتمعات التي كان من المتوقع أن يقع عليها عبء التغيير اندمجت في النظام الرأسمالي إلى الحد الذي أفقدها الحاجة إلى التغيير، فأضحى غرضهم من الحياة هو إرضاء الذات بالاستهلاك المادي، وقد تطور هذا الأمر إلى كسر القيود القديمة على الإشباع الجنسي فظهرت الثورة الجنسية في الستينيات والسبعينيات، وكانت لهذه الحرية الجنسية ميزة للنظامين الاجتماعي والاقتصادي إذ جعلت الناس يتعلقون بهما تعلقًا أقوى كونهما سمحا بتلك الملذات لأول مرَّة، وإلى جانب الملذات وإشباع الرغبات الجنسية يوجد التعاهد بالتغذية الجيدة وفتنتهم بالملهيات التقنية الفاخرة، فكان ذلك أدعى لصرف الإنسان الحديث عن التمرد على النظام الذي جلب له كل ذلك، ومما يزيد من استعباد الإنسان الحديث أن تصوراته عن الحياة الطيبة والجميلة مستمدة في الأصل من الدعايا والإعلان اللذين يقدمهما النظام.
وبناءً على ذلك، إذا ابتُلي أحد الأشخاص بفقده جزءًا يسيرًا من ثقته بنفسه فإنه يعلم ما يجب عليه فعله، وهو شراء شيء، أو شرب شيء، أو النشوة، أو ممارسة الزنا، أو مشاهدة فلم إباحي، وهي أمور لا تجلب إلا رضًا لحظيًّا ثم يزول، إلا أن عاقبتها سقوط المجتمع برمته في دورة استهلاكية إنتاجية خبيثة تتلاعب بالأمزجة، وتدار من قِبل جُباة الأرباح.
الفكرة من كتاب حياة تالفة … أزمة النفس الحديثة
لقد رُبط التحديث بالمنافع المادية، ورغم ما يمتكله الإنسان من الماديات بأشكالها وألوانها المختلفة، فما زال يعيش حياة تعيسة، إذ تعددت وتنوعت الجرائم والأمراض من جرائم جنائية كالقتل والسرقة إلى الأمراض الاجتماعية كالطلاق والانتحار والاكتئاب والقلق، والأسر المفككة، وشقاء الفقراء، وأفول المدن الصغيرة، فزاد ذلك من أعداد المتقدمين للعلاج النفسي، ومن ثمَّ يستعرض المؤلف تأثير الحداثة في النفس البشرية، مقدمًا تحليلًا قويًّا في ضوء وقع التحديث والتصنيع الرأسمالي على الخبرة الشخصية والعلاقات الاجتماعية والأسرية.
مؤلف كتاب حياة تالفة … أزمة النفس الحديثة
تود سلون : هو أستاذ مشارك في علم النفس بجامعة تولسا في أوكلاهوما بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو أحد المساهمين والرواد في مجال علم النفس الشخصي، توفى عام 2018، ومن مؤلفاته:
اتخاذ القرار: خداع النفس في خيارات الحياة.
معلومات عن المترجم:
عبد الله بن سعيد الشهري: هو باحث دكتوراه علوم اجتماعية ومؤلف ومترجم، من كتبه:
ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان.