تراجُعٌ ثم عودة
تراجُعٌ ثم عودة
تراجعت مشاركة النساء في رواية الحديث بعد جيل الصحابة تدريجيًّا، فعندما ننظر إلى الأحاديث في المسند الجامع مثلًا، نجد أكثر من ألفي حديث تظهر النساء روتها الصحابيات، فإذا استبعدنا ما روته عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، يتبقى لنا خمسمئة وعشرون حديثًا روتها الصحابيات، مقابل خمسمئة وخمسة وعشرين حديثًا ظهرت النساء في أسانيدها في الطبقات (أي الأجيال) الإحدى عشرة التالية كلها إلى نهاية القرن الثالث الهجري، ولم يظهرن بعد الحلقة الرابعة في سلسلة الإسناد. ومن أسباب ذلك تحول رواية الحديث إلى حقل علمي تخصصي، والتدقيق في أحوال الرواة، والخلاف بين أهل الحديث وخصومهم حول كون الحديث مصدرًا للتشريع، وانتشار الرحلة لطلب الحديث واعتبار ذلك ضروريًّا عند المحدثين.
ثمَّ عادت النساء إلى ساحة رواية الحديث في القرن الرابع الهجري، وكان من أسباب ذلك قبول أهل السنة لكتب السنن والصِّحاح، مثل: صحيحَي البخاري ومسلم، واستقرار مجال رواية الحديث في نهاية القرن الثالث، ما سمح بقبول رواية عوام الناس اعتمادًا عليها، وزاد من الاهتمام بتعليم الحديث باعتباره رأس مالٍ اجتماعيًّا وثقافيًّا كما في دراسة بيير بورديو | Pierre Bourdieu، وأيضًا شيوع كتابة الحديث بعدما كان الاعتماد على المشافهة. ويظهر أثر ذلك في سيرة كريمة بنت أحمد المَرْوَزِيَّة التي كانت من أوليات المحدِّثات اللاتي ظهرن آنذاك. ولدت في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري ولُقِّبَت بأم الكِرام المَرْوَزِيَّة وتميزت بروايتها لصحيح البخاري وعلو إسنادها، وذُكر أنها كانت عالمة عفيفة، دقيقة في معايير رواية الحديث، درست على يد ثلاثة شيوخ في خُراسان منهم الكُشْمِيهَني، ولم تتزوج، وجاوَرت بمكة حيث سمع منها الحجاج، وكان من طلابها علماء بارزون في رواية الحديث مثل الخطيب البغدادي، وتُوفيت هناك وعمرها يقارب المئة.
وكان من أسباب العودة تطور شبكات علاقات العلماء، ودور الآباء في تعليم بناتهن وأثر الزواج في توريث المنزلة العلمية وكون الحديث مساحة محايدة في كل المذاهب الفقهية والعقدية، ما يظهر أثره في سيرة فاطمة بنت الحسن بن علي الدقاق، إذ كان أبوها عالمًا شافعيًّا متصوِّفًا في نَيْسَابور، حرص على تعليمها وحضورها مجالس العلم في طفولتها، وزوَّجها لأحد أبرز طلابه أبي القاسم القُشيري الذي غدا من أبرز علماء الشافعية والأشعرية، ويظهر في سيرهما الفرق بين معايير العلماء من النساء والرجال، إذ كان اهتمام فاطمة بالقرآن والحديث، وكان اهتمامه بالعقيدة والفقه. وقد أنجبا ثمانية أبناء، درس أغلبهم العلوم الدينية، وتزوجت بناتهما علماء من عائلاتٍ مختلفة، وروى الحديث عن فاطمةَ أحفادُها، وعلى مدى أربعة أجيالٍ كان في الأحفاد عشرات المحدثين والفقهاء والمتكلمين.
الفكرة من كتاب المرأة ونقل المعرفة الدينية في الإسلام
يستكشف الكتاب دور النساء في رواية حديث رسول الله ﷺ خلال عشرة قرون، بدءًا من الصحابيات في صدر الإسلام وصولًا إلى بداية العصر العثماني في القرن العاشر الهجري، ويحلل أسباب ازدهار دورهن وتراجعه عبر الزمن، ويعرفنا على أشهر المحدِّثَات في كل فترة زمنية.
واعتمد الكتاب على الأسانيد في الكتب الستة وموطأ مالك وبعض كتب السنن الأخرى.
مؤلف كتاب المرأة ونقل المعرفة الدينية في الإسلام
د. أسماء سيِّد: باحثة أمريكية من أصول هندية مسلمة، حصلت على الدكتوراه من جامعة برينستون في عام 2005، وتعمل أستاذة مشاركة للدراسات الإسلامية بقسم لغات وثقافات الشرق الأدنى في جامعة كاليفورنيا بمدينة لوس أنجلوس، وتهتم بالتاريخ الإسلامي الاجتماعي، وتاريخ التعليم الإسلامي، نُشرت لها مقالات متعلقة بالشريعة الإسلامية والمجتمع الإسلامي والمرأة المسلمة، وكتابان هما: Law and Tradition in Classical Islamic Thought، والكتاب الذي بين أيدينا “المرأة ونقل المعرفة الدينية في الإسلام Women and the transmission of Religious Knowledge in Islam”
معلومات عن المترجم:
د. أحمد العدوي: باحث ومترجم، تخرج في كلية الآداب (قسم التاريخ) بجامعة القاهرة، ويعمل أستاذًا مساعدًا بقسم العلوم الإسلامية في كلية العلوم الدينية بجامعة تشانكالي أونسيكيز مارت في تركيا. نُشرت له أعمال عديدة في التاريخ الإسلامي وتاريخ الأقليات الدينية وقضايا التراث العربي، وترجم أعمالًا عديدة من الإنجليزية إلى العربية منها: “جيش الشرق: الجنود الفرنسيون في مصر 1797 – 1801” لتيري كرودي، وفاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الترجمة لعام 2022 عن ترجمته لكتاب “نشأة الإنسانيات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي” لجورج مقدسي.