تحليل مراحل الحداثة في الحضارات المختلفة
تحليل مراحل الحداثة في الحضارات المختلفة
تُعد الحداثة تجربة أنثروبولوجية خلال مراحلها المختلفة بدايةً من الحضارة الدينية الزراعية مرورًا بالحضارة التجارية والصناعية وصولًا إلى مجتمع الحداثة الفائقة التي نحن على أبوابها، فالحضارة الدينية في أوروبا كانت منذ البداية مجتمعات حركة وليست مجتمعات نظام، والسبب في ذلك راجع إلى أنها عرفت حركات تحوّل قوية، ولعل من أهمها وأشهرها الثورة الزراعية في أوروبا في القرن الثاني عشر، ومن ثمَّ كانت تلك المجتمعات الدينية تشير إلى وجود مبدأ خارجي للحركة متمثل في مشيئة الإله، وتقنيات تحديث الزراعة التي تدل على الابتكارية، لذا من الخطأ الاعتقاد أن المجتمعات الدينية فرضت نظامًا صارمًا لا يمكن المساس به، أو أن دور الفكر الديني كان مقتصرًا على خدمة مصالح الطبقة الحاكمة، لأن التأويل الديني للاقتصاد والمجتمع لم يكن مقتصرًا على النبلاء ورجال الدين، بل كان يسود جميع السكان من فلاحين وتجّار وإقطاعيين ورجال دين.
أما بالنسبة إلى الحضارة القانونية السياسية التي راجت في عصر الأنوار، فإنها قد استعاضت بالسياسي عن الديني كمقولة مركزية للفكر والفعل، وركزت على الروح الجمهورية والمواطنة، واتخذت من الديمقراطية وسيلة للتعبير عنها، فأصبح النوّاب يمثلون إقليمًا خاصًّا ومجموع الأمة في آنٍ واحد، ومن ثمَّ نشأ النظام الجمهوري على مستوى الدولة والمؤسسات، لا مستوى المصالح والحقوق الشخصية، وهذه الفكرة نراها تتداعى أمامنا اليوم في الدول التي تصف نفسها بأنها ديمقراطية، إذ يتم التركيز على متطلبات الفرد بدلًا من التركيز على مبدأ كوني كالمساواة، فأدى ذلك إلى فقدان الحياة السياسية التي كانت تنادي بالحرية والمساواة، والتماهي مع أصحاب النفوذ السياسي، كما أصبحت الفكرة الجمهورية معنية بتربية الأطفال تربية علمانية ليصبحوا مواطنين صالحين أكثر من جعلهم عمّالًا فاعلين أو شبابًا قادرين على الابتكار والحكم الأخلاقي، وهو ما بدأ المناداة به منذ مطلع القرن الحادي والعشرين.
وبالنسبة إلى المجتمع الصناعي، فلم يعرف التاريخ مجتمعًا تماهى مع توجهات وصراعات اجتماعية حُددت بمصطلحات اقتصادية واجتماعية، ويُنظر إليه من منظور العلاقات الطبقية ومنطق الربح الرأسمالي مثلما حدث مع المجتمع الصناعي، فمن أجل أن يتأنسن العالم ويغتني فقدَ البشر بدخولهم إلى المصانع إنسانيتهم وابتكاريتهم، فحلت الآلة محل الإله مدعومة بالعِلم والتقانة، فلم يعد المجتمع الصناعي يُنظر إليه كعالم الإنتاج والابتكار، وإنما كعالم الاستهلاك والثراء الفاحش واللا مساواة والإقصاء.
الفكرة من كتاب الحداثة المتجددة.. نحو مجتمعات أكثر إنسانية
يرى “ألان تورين” أن جميع النظريات التي وصفت الحداثة قد اختزلت المجتمعات الحداثية في مجرد مجتمعات اقتصادية استهلاكية أو سياسية قانونية، لذلك يرى أنه لا بد من رفض أي نظرية تقيد السلوك الإنساني وفق قواعد وقوانين ثابتة، ومن خلال ذلك يستعرض مراحل الحداثة، ويحلل المجتمعات الحديثة، كما يرى أننا على أعتاب الدخول إلى مجتمع جديد هو “مجتمع الحداثة الفائقة” حيث يعتمد الإنسان على وعيه بذاته من أجل السيطرة عليها وعلى الطبيعة.
مؤلف كتاب الحداثة المتجددة.. نحو مجتمعات أكثر إنسانية
ألان تورين: هو عالم اجتماعي فرنسي ذو شهرة عالمية، حصل عام 1998 على جائزة “أمالفي Amalfi” الأوربية لعلم الاجتماع والعلوم الاجتماعية، له مؤلفات عديدة بلغت نحو أربعين مؤلفًا، منها:
ما هي الديمقراطية؟
نقد الحداثة.
براديغما جديدة لفهم عالم اليوم.
من أجل علم الاجتماع.
معلومات عن المترجم:
جلال بدلة: مترجم وأكاديمي سوري من مواليد دمشق عام 1977، حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة من جامعة بوردو الثالثة، من ترجماته:
فلسفة العنف.
الهمجية.
الإسلام والجمهورية والعالم.
الهوية والوجود: العقلانية التنويرية والموروث الديني.