تحقيق العلم
تحقيق العلم
بعد موت النبي (صلى الله عليه وسلم) واكتمال الوحي، اكتملت العلوم الخادمة له، فلم يبقَ إلا إغناء ذلك التأسيس بالضبط والتحقيق، فالضبط يكون لمقدمات تلك العلوم، والتحقيق لتحريرها والوقوف على أغوارها ومقاصدها، ولكلٍّ من هذين المقصدين ذرائع يتوسَّل بها طالب العلم منها: التأصيل المرجعي، وذلك بأن يكون له في كل علم أصل يفيد الرجوع إليه فيضبط به مسائله، ويقيد على حواشيه ما ظفر به من فوائد، ومن الشواهد على ذلك عناية الإمام النووي بكتاب “التنبيه” في فقه الشافعية، فقد حفظه في أربعة أشهر ونصف، وصنف كتابًا في تصحيحه، كما شرع في شرحه واختصاره.
فإذا ضمَّ الطالب إلى اعتماده على هذا الأصل حفظه له؛ بلغ الغاية في الضبط، فالحفظ من أشرف صناعات العلم وهو من أعونها على استثماره والارتياض به، لذلك فقد عني العلماء بوضع المتون والمختصرات الجامعة لأصول المسائل، حتى عدَّ حفظ المتون نهجًا محكمًا لا يكاد يحيد عنه طالب العلم المُجِد.
وعلى طالب العلم أن يحرص على أن يكون له أصل مرجعي للتحقيق، وهذا الأصل ليس بديلًا لأصل الضبط بل هو قرين له، والفارق المميز بينهما أن أصل الضبط يراد أن يكون وسيلة لضبط مسائل العلم، مجمعًا لكلِّ ما يعرض له، وغالبًا ما يكون مختصرًا أو متوسِّطًا لأن الغرض منه أن يحيط به الطالب إحاطة تامة، أما أصل التحقيق فيراد منه أن يرتاض الطالب بمسالك تحقيق مسائل العلم، وتحرير أدلته، فالدرس في أصل الضبط للفهم والتصوُّر، والدرس في أصل التحقيق للتحرير والابتكار.
وبالمثال يتضح المقال، في علم أصول الفقه مثلًا، لدينا من أصول الضبط “البدر الطالع على جمع الجوامع” للمحلي، ولدينا من أصول التحقيق “البرهان” للجويني، فمتن “جمع الجوامع” متن أصولي مختصر، يضم مسائل علم الأصول مجردة من أدلتها ويقتصر فيه الطالب على ضبط مسائله وتصورها، و”البرهان” للجويني من الكتب الأصولية التي كانت محل عناية العلماء، وهو كتاب فيه نشر للمسائل وأدلتها، لذلك على الطالب أن يتعامل معه بتريث وتأنٍّ فيعمل فيه فكره ونظره.
الفكرة من كتاب ارتياض العلوم
إن سعة الاطلاع وامتلاك المصادر، والاستكثار من المعلومات مطلب لبلوغ مدارج العلماء، إلا أنه وحده لا يكفي طالب العلم للرسوخ في العلم والارتياض به، بل هو مرهون قبل ذلك بسداد بصيرة الطالب، وامتلاك المواهب والاتكاء عليها لتحقيق العلم وحسن التصرف فيه، فكيف يرتاض الطالب العلوم؟ من هنا جاء هذا الكتاب المبدع، وقد صنَّفه الكاتب بطرق غير مألوفة في سائر المؤلفات، ناقلًا كلام الأئمة الكبار، بعيدًا عن الإغراق في رسوم الخطط ومباني البرامج ليمهِّد الطريق أمام طلاب العلم، فبالارتياض يسهل منه ما استصعب ويقرب منه ما بعد، فإن للرياضة جراءة وللدُّربة تأثيرًا.
مؤلف كتاب ارتياض العلوم
مشاري بن سعد الشثري: ولد في الرياض عام 1989، وهو كاتب وباحث في مركز البحوث والدراسات التابع لمجلة البيان، له عدة مقالات منشورة وغير منشورة، وله عدة مؤلفات منها: “عبقرية الإمام الشافعي المدد والمداد”، و”غمرات الأصول المهام والعلائق في علم أصول الفقه”، و”الموازنة بين المختصرات الأصولية”، و”صناعة التفكير الفقهي”.