تأثير التقنية في الأفراد والمجتمعات
تأثير التقنية في الأفراد والمجتمعات
كان الإنسان قبل اختراع “الساعة الميكانيكية” تحت سيطرة الإيقاعات الزراعية، متحررًا من العجلة، لا يأبه للدقة، ولا يكترث بالإنتاجية، لكن الرغبة في ضبط الوقت أدت إلى ظهور الساعات الميكانيكية، ليس هذا فحسب، بل صارت الساعة مع الوقت أكثر دقة وأصغر حجمًا وأرخص ثمنًا، وقد أدى انتشارها إلى تغيُّر طريقة الناس في العمل والتسوق واللعب، وأصبح الأفراد أكثر تنظيمًا، لأن الساعة تذكرهم بالوقت الذي استخدموه، والوقت الذي أضاعوه وأهدروه، وأسهم إضفاء الطابع الشخصي إلى الزمن في شيوع النزعة الفردية، ومن ثم غيرت الساعة الميكانيكية من طريقة رؤيتنا لأنفسنا، وطريقة تفكيرنا.
تنتمي الساعة والكتاب والصحيفة والمدرسة والمكتبة والحاسوب وشبكة الإنترنت إلى ما نسميه “التقنيات الفكرية”، وهي الأدوات التي نستخدمها لزيادة مهاراتنا وقدراتنا العقلية وتنميتها، وتأثيرها أقوى من تأثير أي تقنيات أخرى، لأنها تعمل على تشكيل هويتنا الشخصية والتعبير عن أنفسنا وتنمية علاقاتنا بالآخرين. عندما يخترع شخص تقنية ما، فهو لا يدرك الفلسفة المصاحبة لها، لأن هدفه السعي إلى حل مشكلة معينة، لدرجة ألا يرى الآثار البعيدة المترتبة على اختراعه، وكما أن مخترعي التقنية غافلون عن فلسفتها، فكذلك مستخدموها غافلون عن فلسفتها أيضًا، لأنهم لا ينشغلون إلا بفوائدها، فالساعة الميكانيكية لم تُصنع من أجل حث الناس على تفكير أكثر علمية، بل كان ذلك ناتجًا من نواتج صنع الساعة، وهذه النواتج هي التي تمارس تأثيرها فينا، ومن ثم فإن الفلسفة التي تحملها التقنية تمثل الرسالة التي تنقلها إلى عقول مستخدميها، وهو ما أكده “كارل ماركس” عندما قال: “الطاحونة الهوائية تعطيك مجتمعًا يحكمه السيد الإقطاعي، أما الطاحونة البخارية فتعطيك مجتمعًا يحكمه الرأسمالي الصناعي”.
كما نرى أن “سقراط” كان يعتقد أن الاعتماد على الكتابة يجعل التفكير أكثر سطحية، لأن القراءة سوف تحل محل التذكُّر، ومن ثم سوف يفقد الإنسان العمق الفكري المؤدي إلى الحكمة والسعادة، وعلى خلاف سقراط، رأى “أفلاطون” أن تقنية الكتابة شجعت المنطق والدقة والاعتماد على الذات، وقد ترتب على اختراع أداة الأبجدية تأثيرات كبيرة وعميقة في لغتنا وعقولنا، لأنه في الحضارة الشفوية يكون التفكير محكومًا بالتذكّر، وما تتذكره محدود بما تحفظه في عقلك، لكن مع الكتابة تحررت المعرفة من قيود ذاكرة الفرد، وفتحت آفاقًا جديدة للفكر والتعبير.
الفكرة من كتاب السطحيون.. ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا
عندما تظهر أي وسيلة إعلام جديدة لنقل المعلومات، فإن الناس ينشغلون بالمحتوى الذي تنقله ويختلفون ويتناقشون حوله، فمثلًا يهتمون بالأخبار التي تنقلها الصحف، والبرامج التي ينقلها التلفاز، والكلمات التي ينقلها الطرف الآخر عبر الهاتف، فتتوارى التقنية ذاتها خلف المحتوى الذي تنقله، وجاءت شبكة الإنترنت لتكون آخر وسيلة تثير النقاش والخلاف، فالبعض يبشِّر بعصر ذهبي لإمكانية الوصول إلى المعلومة ومشاركتها، والبعض الآخر يشكك وينذر ببدء عصر من الظلام تخيم عليه الضحالة والنرجسية
وبين هذا وذاك يغيب عن الأذهان أن التقنية تُغيِّر أنماط الإدراك دون أي مقاومة من مستخدميها، لدرجة أننا لا نلاحظ ما يجري داخل رؤوسنا، وفي الوقت نفسه نظن أننا نُمسك بزمام الأمور لنُرضي كبرياءنا، مع أن الواقع يخبرنا أن شبكة الإنترنت أصبحت السيد والخادم في آنٍ واحد، ومن هذا المنطلق يأتي هذا الكتاب ليكشف لنا المخاطر المُحيطة بالإنسان في ظل الإنترنت والمجتمعات الرقمية التي سلبت الإنسان واقعه المادي الملموس، ودفعته دفعًا إلى عالم رقمي مليء بالأوهام والأمراض والاستلاب.
مؤلف كتاب السطحيون.. ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا
نيكولاس كار: هو كاتب أمريكي حاصل على الماجستير في الإنجليزية والأدب الأمريكي من جامعة هارفارد، له مقالات وكتب عديدة حول التقنية والأعمال والثقافة. من مؤلفاته:
The Glass Cage: How Our Computers Are Changing Us
The Big Switch: Rewiring the World, from Edison to Google
Utopia Is Creepy: And Other Provocations
معلومات عن المترجم:
وفاء م. يوسف: هي كاتبة ومترجمة قانونية بمركز ترجمة اللغة الإنجليزية بجامعة البحرين. من ترجماتها:
الثراء للأزواج الأذكياء.
السطحيون.