بين النقل والعقل
بين النقل والعقل
برزت المغالاة في العقل والثقة بقدراته؛ امتدادًا للشطط المعتزلي القديم الذي ينتهي إلى نتائج تتضمَّن الاستغناء عن نور الوحي، فلا يبقى له إلا إثبات آرائنا العقلية! وقد تصدَّى علماء الإسلام لهذا التطرف، ولكن من نقصت لديهم المؤهلات الشرعية والعقلية وقعوا في تطرف مقابل، أما المحققون منهم فقد أدركوا أنهما متكاملان لا متصارعان، وأن وضع كل واحد في طرف هو انفصام للذات المؤمنة، لكن دراز يضع ثلاثة فروق جوهرية بين العقل المجرد من الوحي والعقل المهتدي بنوره؛ فالعقل يعرف الحقائق معرفة باردة غير مُلزَمٍ باتباعها بينما الوحي حياة، وعلامتها المحبة الانقياد، وهو نفسه الفرق بين الدين والفلسفة، والعقيدة من طبعها الكرم وحث حاملها على نشرها والدعوة إليها في حين تميل كل ثروة إنسانية -كالفكرة العلمية- إلى الاحتكار والاستئثار، وقد وصلتنا حقائق الوحي بواسطة الأنبياء رطبة بلا كدٍّ، وعمل البشر محدود بنقائص الطبيعة الإنسانية؛ يقول دراز: «الإرادة العاقلة أثمن جزء في وجودنا، فنحن نتميز بها، إنها الملكة القادرة على أن تركزنا في ذواتنا، على حين أن الحواس والغرائز تبعثرنا خارجها».
بيدَ أن الإسلام لم يطالب بما تلفظه العقول، بل يقوم على بديهياته وجاءت الرسالات لإكمال الفطرة لا لتغييرها؛ فالشريعة الإلهية تثبت الفطرة وتنقيها وتكفل لها سندًا يحميها من التبدل والأدران، وهما مستويان لمصدر واحد؛ العقل أقرب والوحي أنقى، إذن فلا تعارض بين حق وحق البتَّة، ولا مسوغ للاستغناء عن العقل ولا الاستغناء به لأنه مناط التكليف في الدين ومبناه، بل إن أسمى العقائد الدينية كالتوحيد وخلود الروح لا يكتملان بغير بدائه العقول من سببية وغائية؛ فالسببية تعني أن ما لا سبب له في عالم الشهادة لا بد أن له سببًا في عالم الغيب، فلا شيء من الممكنات يحدث بنفسه.. والغائية تعني أن لكل شيء هدفًا حتى ينتهي إلى غاية كلية ثابتة هي غاية الغايات، وقسم دراز العقول إلى نوعين: عقول متعجلة قانعة تقف عند أدنى المبادئ والغايات، وعقول واعية طليقة لا تقنع بآحاد القوانين والجزئيات حتى تنتهي إلى الكليات.
الفكرة من كتاب فيلسوف القرآن الكريم محمد عبد الله دراز: حياته وآثاره
عندما نتحدَّث عن الشيخ محمد عبد الله دراز فإننا نتكلم عن عَلَمٍ من أعلام المجددين المعاصرين، وعقلٍ من خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين الذين لم ينالوا من الشهرة والانتشار ما يوازي مكانتهم العلمية والفكرية رغم أن أفكاره وكتبه لم تأتِ إلا بالطريف والجديد، وابتدع منهجية لم يسبقه إليها أحد من قبل في قضيتي مصدرية القرآن الكريم وعلم الأخلاق القرآنية، والمثير في حياة الشيخ دراز أنه من أولئك الذين درسوا في الغرب سنوات طويلة، فما رجع كغيره ناقمًا على الشرق وتراثه أو ظل متصلبًا على أفكاره فلم يستفد من علوم الغرب شيئًا، بل هضم علوم الغرب ووعاها أصولًا وفروعًا، ثم نقدها بقوة في عقر دارها مستمدًّا العون من ثقافته الشرعية الواسعة وعلمه الغزير الناصع؛ فأثار إعجاب الغربيين قبل أن يسمع به أبناء جلدته!
مؤلف كتاب فيلسوف القرآن الكريم محمد عبد الله دراز: حياته وآثاره
محمد بن المختار الشنقيطي: باحث أكاديمي وناشط سياسي ومؤلف موريتاني، وُلد سنة ١٩٦٦، يعمل أستاذًا مشاركًا في الأخلاقيات السياسية وتاريخ الأديان في جامعة حمد بن خليفة، وحصل على درجات علمية في الفقه والترجمة وإدارة الأعمال، وله إسهامات عن الربيع العربي والحضارة الإسلامية والحداثة الإسلامية، وتُرجمت مؤلفاته ودراساته إلى عدد من اللغات من بينها التركية والألبانية والفارسية.
من مؤلفاته:
– الخلافات السياسية بين الصحابة.
– البحث عن دين الفطرة.
– خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين.