بين المثالية والواقعية
بين المثالية والواقعية
والشريعة الإسلامية شريعة وسطية تقوم على الاعتدال لا المغالاة، حتى في التعبُّد يقول النبي الكريم: “إن الدين متين فأوغل فيه برفق”، وكذا في أمور المعيشة والإنفاق والمأكل والملبس، وكل التشريعات مرآة لقوله تعالى ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، فنجده وسطًا بين المثالية الحالمة بما فيها من تكليف للنفس بما لا تطيق، وبين الواقعية الراضخة التي تعزف عن القيم والمثل العليا.
وقد حثَّ الشرع على فضيلة سلامة الصدر، والمحبة الشاملة والرحمة أسوة بنبي الرحمة، وتخلُّقًا بصفات الله الذي وسعت رحمته كل شيء، رحمة بكل المؤمنين وبكل الناس محسنهم ومسيئهم بل حتى كافرهم، وقد كان النبي يشفق حتى على أعدائه خشية أن يموتوا على الكفر، فهل يتعارض ذلك مع الحب في الله والكره في الله وهل هذا نزع من المثالية؟
إن كان ذلك من مثل الإسلام العليا، فإنه لم يغفل الواقعية العملية، وقد فطرنا الله على طبيعة أن نحب ونكره، وأن نغضب ونرضى، ولكن كان النبي يغضب لحقوق الله فقط، ونفس الشريعة التي رغبت في العفو والصفح هي التي نصَّت على ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾، لعلم الله بالنفوس وما فيه صلاحنا ومتى يكون الحزم ومتى يكون العفو، بل وأكثر من ذلك فقد نهى الشرع عن مجرد الود مع البعض ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، وذلك للكافر المحارب لا الكافر المسالم، وقد أقرَّ وجود الكره والبغض لدى المسلمين ولم ينهَهم عنه أو يكلفهم ما لا يطيقون، بل جعل يضبط تأثيره ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾.
الفكرة من كتاب نظرات في الإسلام
من بين كل الحركات الدينية، والحركات الإصلاحية، كانت رسالة الإسلام هي الأكثر استقرارًا وتمكنًا من النفوس، والأكبر والأبعد أثرًا في المجتمعات، ودعوة الإسلام لما قامت فكأنها أنشأت الإنسان خلقًا آخر، وحوَّلته من حمية الجاهلية إلى حمية في الحق، واتحدت شخصية الداعي محمد (ﷺ)، ومنهاج الدعوة وطبيعتها، وطبيعة الأمة التي بُعث فيها النبي، اتحد كل ذلك بتدبير الله ورعايته ليتم الله لنا الدين، ويتم لنا رسالته، رسالة الفطرة والحق والإنسانية.
مؤلف كتاب نظرات في الإسلام
الدكتور محمد عبد الله دراز: إمام ومفكر مصري، ولد في محافظة كفر الشيخ عام 1894م، وهو من أسرة علمية عريقة، درس بالأزهر وحصل على الشهادة العالمية عام 1916، ابتُعِث إلى فرنسا في منحة علمية بجامعة السوربون، وحصل منها على درجة الدكتوراه في فلسفة الأديان، اشتغل بالتدريس في عدد من الجامعات المصرية، وكان عضوًا في جماعة كبار العلماء، كما كان عضوًا في اللجنة العليا لسياسة التعليم، وفي اللجنة الاستشارية الثقافية في الأزهر، وتُوفِّي عام 1958م.
ومن مؤلفاته:
النبأ العظيم، نظرات جديدة في القرآن.
الدين، بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان.
زاد المسلم للدين والحياة.